-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المولد النبوي ذكرى تتجدد وأمة تتبدد

المولد النبوي ذكرى تتجدد وأمة تتبدد

مما أخذته عن شيخي محمد الغزالي رحمه الله قوله إن “العرب من دون إسلام صفر”، وقد ضاق بعض العربان، ممن مسّهم طائف من الشيطان بهذه المقولة وعدُّوها ترفا أدبيا وتطرفا فكريا لاعتقادهم بأن صلاحية الإسلام تنتهي عند محراب الصلاة ولا صلة له بالحياة، وبأن تطوّرهم وتحضرهم مرهون بشيء واحد لا ثاني له وهو أن يعلنوا براءتهم من الإسلام الذي يلصقون به ما تقدم وما تأخر من هزائمهم الحضارية في حين أن الإسلام هو من يجب أن يعلن براءته من أمة ارتقت به ردحا من الزمن ثم اتخذته وراءها ظهريا فعوقبت بما فعلت وعادت كما كانت أمة شاردة ماردة، لا تعرف إلا عقلية القبيلة التي استحكمت منها حتى إنك لتلمح من سلوكاتها في عصر الذرة والمجرة شيئا من عقلية داحس والغبراء والجاهلية الجهلاء.

إن زعم بعض إخواننا التمسك بالهدي النبوي ليس إلا نفاقا وكذبا على الذات وتمسكا بظاهر السنة، يقيمون الدنيا ولا يقعدونها على ذهاب سنة خفيفة ولكنهم يصمتون وكأن على رؤوسهم الطير وهم يرون السنة النبوية تتعرض لهجومات محمومة وغير مسبوقة من اللوبيات المعادية للإسلام، ويكون أقصى ما يفعلونه حشد النصوص في التحذير من هذه اللوبيات.

إن أمة ضاقت بالإسلام وشرحت بغيره صدراً أمة لا تستحق شرف الانتساب إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي أدرك بعض الغربيين عظيم قدره فأنصفوه بعدما تبين لهم بأن ما جاء به هو الحل لكثير من المعضلات الإنسانية، ولذلك لا عجب أن نجد عالما كبيرا مثل “مايكل هارت” لا يتردد في جعل محمد صلى الله عليه وسلم على رأس الخالدين المائة عبر التاريخ البشري.

تتجدد ذكرى المولد النبوي كما يتجدد الليل والنهار، ولكن ما قيمة أن تتجدد ذكرى المولد النبوي وأمتنا العربية والإسلامية تترنح وتراوح مكانها وأرضنا العربية والإسلامية تنتقص من أطرافها؟. ما قيمة أن تتجدد ذكرى المولد النبوي ولكن تتبدد معها أوصال هذه الأمة ويصبح الاجتماع والإجماع العربي والإسلامي ضربا من الخيال؟. ما قيمة أن يحتفل بعضنا بالمولد النبوي إمعانا في حب المصطفى صلى الله عليه وسلم كما يزعمون، أو يحرمه بعضنا الآخر تمسكا بالسنة، ودفعا للبدعة كما يدعون في الوقت الذي لا نشعر فيه كلنا أو أكثرنا بأننا شركاء في إثم متوارث وهو ابتعادنا عن قيم هذا المولد؟. ما قيمة أن يشعل بعضنا الشموع احتفاء بمولد الهدى عليه الصلاة والسلام ولكنهم لا يعرفون إلى الهدى سبيلا، معيشتهم ضنكى، ومجتمعاتهم فوضى، وروادهم الحمقى الذين لا يصلحون لإقامة دين ولا لإقامة دنيا؟.

يحرم بعض إخواننا الاحتفال بالمولد النبوي، ويحشدون لتأييد ذلك ما أمكنهم من أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية، ويستشيطون غضبا حينما يجدون من يرى خلاف ما يرون، وليس له من ذنب إلا مخالفتهم في المذهب، فلا تنقضي ذكرى المولد النبوي إلا على خصومات جمة لا تنتهي آثارها إلا بحلول ذكرى جديدة.

لقد أساء بعض إخواننا -عن علم وعن غير علم- في الغالب الأعمّ فهم السنة النبوية وحصروها في “شكليات” لا تسمن ولا تغني من جوع، وغفلوا عن جوهر السنة النبوية، ومن ذلك أنهم يسارعون إلى تبديع الاحتفال بالمولد النبوي ويشنِّعون ويعتبون على المحتفلين المبتدعين! ولكن لا تجد لهم في المقابل اجتهادا في بيان الجوانب الإنسانية المشرقة من هذه السنة الهادية، فالسنة النبوية ينبغي أن لا تُختزل في جلباب أو حجاب أو تقصير ثياب أو مواظبة على سواك بل هي أوسع من ذلك، إنها السلوك السوي الذي يجعل من المسلم عنصرا إيجابيا في المجتمع. إن السنة النبوية ليست فقط في التذكير بسد الفُرج في الصلاة بل هي أيضا في تفريج الكرب، فليت شعري كيف يستميت بعض إخواننا في تبديع الاحتفال بالمولد النبوي ذودا عن السنة كما يزعمون ولكنك لا تجد لهم عملا ذا بال في نصرة القيم العليا التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم فلا يهتم أكثرهم بحال اليتامى والثكالى الذين يئنُّون ويجوعون ويموتون في صمت، أليس من التعاليم النبوية تفريج الكرب ونصرة المظلوم وإغاثة الملهوف وأنه “من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم” ففي الحديث النبوي: “من فرَّج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة”.

من المؤسف أن يكون تفاعل وتعامل وتعاطف بعض إخواننا مع مآسي المسلمين حسب ما يمليه قربهم أو بعدهم منهم في المذهب وليس حسب ما تمليه الرابطة الدينية التي تعلو على كل الروابط المذهبية الأخرى، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”، فما بال هذا الجسد الواحد يصبح أجسادا متفرقة ما اجتمع منها في المذهب ائتلف وما اختلف منها في المذهب اختلف. أين القائلون ببدعية الاحتفال بالمولد النبوي من الهدي النبوي في تعاملهم مع قضايا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟ وأين هم من وصايا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي جعل حرمة المسلم مقدمة على حرمة الكعبة المشرفة: “ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه، وأن نظن به إلا خيرا”.

إن زعم بعض إخواننا التمسك بالهدي النبوي ليس إلا نفاقا وكذبا على الذات وتمسكا بظاهر السنة، يقيمون الدنيا ولا يقعدونها على ذهاب سنة خفيفة ولكنهم يصمتون وكأن على رؤوسهم الطير وهم يرون السنة النبوية تتعرض لهجومات محمومة وغير مسبوقة من اللوبيات المعادية للإسلام، ويكون أقصى ما يفعلونه حشد النصوص في التحذير من هذه اللوبيات. إن النصوص لا تغني عن مواجهة اللصوص بتنظيم إسلامي أشد تماسكا من تنظيمهم وبنخبة إسلامية أحرص على دينها من حرصهم هم على دنياهم.

ارتكست الأمة العربية والإسلامية إلى الحضيض ولكنها لم تحقق بمخالفتها للهدي النبوي وتمسكها بالهذي الغربي تقدما يذكر وبقيت كما كانت في ذيل الترتيب، ولكنها مع ذلك ظلت متمسكة بضلالها القديم ولم تصطلح مع الإسلام ومع الهدي النبوي في الوقت الذي نجد فيه بعض المستشرقين المنصفين يؤكدون بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو النبي الذي لا يصلح حال البشرية إلا بإتباع هديه وسنته، ويحضرني هنا ما قالته الكاتبة البريطانية “كارين أرمسترونغ” في كتابها “محمد.. نبي لزماننا”، ومن ذلك قولها: “.. في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم النموذجية، دروس مهمة، ليس فقط للمسلمين، ولكن أيضا للغربيين، إذ كانت حياته كلها جهادا كما سوف نرى، ولكن هذه الكلمة لا تعني الحرب المقدسة، ولكنها تعني كفاحا. كدح محمد صلى الله عليه وسلم –بكل معاني الكلمة- ليجلب السلام على العرب الذين مزقتهم الحروب، ونحن نحتاج لمن هم مستعدون لعمل ذلك اليوم. كانت حياته حملة لا تكل ضد الطمع والظلم والتكبر. لقد أدرك أن العرب في مفترق طرق وأن طريقة التفكير السابقة لم تعد تنفع، لذلك بذل نفسه في جهاد مبتكر لينشئ جيلا جديدا تماما. لقد دخلنا تقويما جديدا في الحادي عشر من سبتمبر، ولا بد أن نكافح بمستوى مماثل لتطوير وجهة نظر مختلفة”.

في الوقت الذي تؤكد فيه “كارين أرمسترونغ” حاجة البشرية الملحة في هذه المرحلة الحرجة إلى تعاليم النبي العربي الأمي، يهتم إخواننا من بني جلدتنا بوضع المجلدات في بيان شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم لا يعملون في الميدان الدعوي عملا يضاهي ذلك، وإن فعلوا أخرجوا ذلك في صورة هجومية تكفيرية تعيدنا القهقرى إلى زمن الفرق الإسلامية التي خدم أكثرها الباطل؛ إذ اتخذ خصوم الإسلام من أفكارها سيفا سلطوه على الأمة الإسلامية بعد أن أشاعوا فيها بدعة التشرذم والتفرق التي لا نزال نكابد آثارها السيئة إلى يومنا هذا.

لقد ابتليت الأمة الإسلامية في العصور المتأخرة بأشباه دعاة عرضوا السنة النبوية عرضا سيئا وانشغلوا بظواهر النصوص عن جوهر السنة النبوية التي عرف بعض الغربيين قيمتها الدينية والإنسانية كما فعلت “كارين أرمسترونغ” فكان بعضهم أولى من بعض الدعاة المسلمين في تقديم الصورة الحقيقية لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!