-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المُربِّي السّبتي أحمان.. شاعر مُتخفّ

المُربِّي السّبتي أحمان.. شاعر مُتخفّ

مثلما نوصَف بأننا من كبار المفرطين في كتابة تاريخنا الوطني برغم الملاحم التاريخية العظمى التي سطرها الشعب الجزائري في كل العصور، فإن الوصف ذاته ينطبق على مقدار إهمالنا للمواهب الأدبية التي يزخر بها الوطن. وقد تسبَّب هذا الإهمال في حرماننا من الإطلاع على إنتاجاتهم النثرية والشعرية. فكم جنى علينا التناسي في هذا الجانب لما كبّلنا بعيبه ومنقصته؟ وكم جلب لنا التقصير من المساوئ؟.

وإذا كان النسيان هو آفة الإنسان التي تطاله ويعجز عن مقاومتها، فإن التناسي يستبطن خبث نية العمد والقصد عن إصرار. والحل المواتي، كما أراه، هو العمل الناهض واليقظ لمقاومة التناسي الذي يقزِّمنا أمام الآخرين من خلال محاولة التعريف بأدبائنا وشعرائنا وكتَّابنا وروائيينا المتخفّين الذين ترقد ما فاضت به قرائحهم من إفرازات إبداعية، وما دوّنوه بأقلامهم في ظِلال الرفوف تغطيها أكوام الغبار، وتنخر الرطوبة الأوراق التي تحملها.

نقف في هذه المرة وقفة تعريفية بالمربِّي الشاعر السبتي أحمان، وهو من شعرائنا الذين أجهزت عليه مفسدة التناسي، وجعلته مختفيا عن الأنظار في محافل ساحتنا الثقافية. ولعل زهده في الحضور والظهور للتعريف بنفسه وبأشعاره زاده إبعادا.

عندما تقف أمام المربي الشاعر السبتي أحمان يفرض عليك احترامَه منذ الوهلة الأولى. وترى في عينيه اللتين تتواريان خلف بلور نظارته الشفاف علامات التواضع الجِبلية، وتقرأ في وجهه الذي تجوبه الابتسامات التي لا تنقطع آيات الوقار والرزانة، ويحتويك حياؤه، وتشتمّ في كلامه الهادئ والموزون واللبق أخلاق وسمات المربين الكبار الذين تتمنى لو لم ينصرفوا إلى التقاعد، وظلوا يملأون بأصواتهم أجواف الأقسام لمواصلة حمل أثقال تعليم الأجيال، وإتمام رسالة تربيتهم. ولو كررت الوقوف أمامه عدة مرّات، فإن انطباعك الأول سيظل ثابتا قارّا، لن يتبدّل ولن يتغيّر.

وُلد المربي الشاعر السبتي أحمان في 6 ديسمبر 1945. وكان منشؤه في بيئة ريفية مفعمة بالجمال وفي وسط اجتماعي بسيط يعتمد أهله على خدمة من يملكون من أراض زراعية وعلى تربية قطعان المواشي. وأمضى سنواته الأولى في مشتى قريبة من بلدية “جرمة” التي تتبع دائرة “المعذر” من ولاية باتنة حاليا. ولا شك أن سحر الطبيعة وفتنتها الجذابة في مرابعه الأولى ترك في مخيلته صوّرا جميلة لم يمحها تعاقبُ السنوات.

بدأ تعليمه ملتحقا بالكُتّاب القرآني، وجالسا في حلقة شيخه “موساوي بوجمعة” الذي كانت نهاية حياته نيله الشهادة في سبيل الوطن. ويذكر أن معلمه الأول كان مبالغا في حزمه وجديته، وكان عمله معه ومع بقية زملائه يتعدى تحفيظهم آيات الذكر الحكيم.

مع دخول الثورة التحريرية سنتها الثانية، وجد الطفل السبتي أحمان نفسه أمام واقع فرض عليه تغيير اتجاه مساره اضطرارا؛ فبمجرد أن انكشف أمر ضلوع والده وأعمامه الأربعة من طرف المستخرب الفرنسي “ليكا” الذي تجاور ضيعتَه التي امتلكها من غير وجه حق ضيعة والده، أصبح أفرادُ عائلته مطلوبين عند إدارة الاستخراب الحاقد. ولم يتوان العساكر الفرنسيون في اقتحام مزرعة عائلته، والقيام بتدمير مرافقها والعبث فيها فسادا لإشفاء غليل انتقامهم، وتشتيت قاطنيها كلهم وتشريدهم عن آخرهم. ولم يهتدِ والده إلى حل سوى الهجرة إلى مدينة باتنة طالبا النجاة لنفسه ولأفراد أسرته.

كانت الهجرة إلى مدينة باتنة رغم قساوتها فاتحة خير بالنسبة للصبي السبتي أحمان، ورُبَّ ضارّة نافعة، كما جاء في المقولة العربية المحفوظة، إذ صادف من يساعده على دخول مدرسة “النشء الجديد” الواقعة في قلب مدينة باتنة، والتي شيّدها وأهالي المدينة، وفتحت أبوابها في شهر سبتمبر 1954م، وألقى في ذلك اليوم الأغرّ الشاعر محمد العيد آل خليفة قصيدة مطولة عصماء عنوانها: “في يوم باتنة العظيم”. وفيها جلس متتلمذا في اجتهاد ونجابة لمدة خمس سنوات، على أيدي مربين كرام يصفهم بـ”أولياء نعمته”، وهم: الشاعر والأديب أحمد ذياب، والشيوخ أحمد فرّوج، مبارك قرفي، عبد الله بن زعيم، السعيد زرقين رحمهم الله جميعا، والمعلم أحمد أمداح، أطال الله أنفاسه. وختم هذه المرحلة من دراسته بحصوله على الشهادة الابتدائية.

بعد هذه المرحلة القصيرة من التعليم النظامي، لم يكن الحظ حليفه، وشمَّر على ساعد الجد، وانبرى للسير في طريق العصامية للارتقاء بمستواه المعرفي. وقدّم أروع مثال في التعلم الذاتي اعتمادا على نفسه، خاصة لما عاكسه شرط العمر الذي وضعته ثانوية الشهيد عباس لغرور لقبول الطلبة يوم افتتاحها، ولم يشمله. وكان يستكمل أعماله الفردية في التعلم ببعض الدروس المسائية التي لم يداوم عليها طويلا.

يتفاعل الشاعر السبتي أحمان مع أحداث محيطه المحلي القريب ومع مثيلاتها على امتداد الوطن العربي. وكثيرا ما تتجاوب وتتفاعل معها شاعريته بوفاء وأمانة ومحبة، وتثور كوامنه من أجلها في عاطفة مشوبة بالصدق. وتأتي نصوصه الشعرية كتوثيق للتاريخ الفردي أو الجماعي توثيقا خالصا نافرا من المبالغة خاصة في مواطن المدح والافتخار.

في شهر ماي من سنة 1964م، انضمّ إلى قافلة المعلمين الطلائعيين من صنف الممرنين، واستفاد في شهر جويلية من السنة ذاتها من تربص تكويني علمي وتربوي. وفي الثامن أكتوبر من السنة نفسها، عُيِّن لأول مرة معلما متدرِّبا في مدرسةٍ بمدينة باتنة. وطفق يتنقل بين عدة مدارس. ورغم حصوله على وظيفة، فإن رغبة الاستزادة من المعرفة لم تهدأ في قلبه، وظلت جذوتها متقدة، وحاول إشباعها بكل الطرائق التي يصادفها في طريقه. وفي سنة 1968م، ولما كان معلما في مدرسة “بغاي” القريبة من مدينة خنشلة، شارك في امتحان شهادة “الأهلية”، وكان من بين الفائزين. ولما ارتقى إلى رتبة مدرِّس، سُمح له بالمشاركة في امتحان الالتحاق بالمعهد التكنولوجي لتكوين أساتذة التعليم المتوسط بمدينة قسنطينة، وكُتب له النجاح.

ولما كان شغوفا بالعلم ونهما في اصطياد المعرفة، راح يغرف وينهل من ذخائر كتب مكتبة المعهد تدوينا وحفظا ومطالعة بقدر مستطاعه. وفي نهاية مرحلة تكوينه، تخرَّج من بين الأوائل محتلا رتبة مشرِّفة. وإثر ذلك، عُيِّن في متوسطة بلدة “المعذر” التي ما يزال يسكنها إلى الآن، أستاذا في مادة اللغة العربية.

وبموازاة ممارسته لمهنة التعليم التي منحها جهده وطاقته بكرم وسخاء، كانت له نشاطاتٌ كشفية وأخرى حزبية. وتولى نيابة رئاسة بلدية “المعذر” في عهدة النصف الثاني من عشرية السبعينيات. وما أن حان اكتمال دورة عمره الوظيفي، حتى ارتضى الذهاب طوعا إلى التقاعد بقلب مرتاح وبضمير راض عما أعطى من أجل إشعال شموع العلم في الأقسام، وإنارة الطريق أمام أبناء وطنه. واختار أن يعود متلهِّفا إلى المهنة المتوارَثة في عائلته التي يعشق أبناؤها رائحة التراب المعفَّر بمياه السواقي الصافي، وهي خدمة الأرض.

تفتقت شاعرية المربي السبتي أحمان باكرا، إلا أنه لم يحتفظ بمحاولاته الأولى، وكان ينظر إليها نظرة الإنتاج المبتسر غير الناضج. كما كان يرى أن أدواته الشعرية في حاجة ماسة إلى صقل وشذب وتهذيب للارتقاء بها. وسار في طريق محاولة امتلاك هذه الأدوات سيرا أصر فيه على بلوغ هدفه من خلال مطالعاته الشعرية المتواصلة، وحفظه لأشعار الفطاحل من الشعراء في القديم والمعاصر حتى يشحذ ملكته الشعرية ويثريها ويغنيها ويقوّيها بوضعها على محك الممارسة المتواصلة مع أغراض الشعر المختلفة.

يتفاعل الشاعر السبتي أحمان مع أحداث محيطه المحلي القريب ومع مثيلاتها على امتداد الوطن العربي. وكثيرا ما تتجاوب وتتفاعل معها شاعريته بوفاء وأمانة ومحبة، وتثور كوامنه من أجلها في عاطفة مشوبة بالصدق. وتأتي نصوصه الشعرية كتوثيق للتاريخ الفردي أو الجماعي توثيقا خالصا نافرا من المبالغة خاصة في مواطن المدح والافتخار. ففي قصيدة: “هنيئا، يا قَطَرُ”، يقول في جزء منها:

جئناك نحمل اعتزازا يا قـــــطر

بعجائب الإنجازات نفتخــــــــــر

رفعتِ بها هامات العروبة للعُلا

وجعلت كل جاحد ينبهــــــــــــر

رددت الحاقدين أعقابـــــــــــهم

وأطفأت نارا بالضغينة تستــعر

زرعتِ الدوحة خيرا فأثمــــرت

وباركها من الله الغيث والمـطر

لما رحل المجاهد الكبير شعبان حبرّة، الذي غادرنا منذ زمن قريب، تألم الشاعر السبتي أحمان لفجيعة فراقه اعتبارا لعلاقة الودّ التي ربطته بوالده ميلود المجاهد في أيام الثورة التحريرية والسنوات الأولى للاستقلال، واستمرّت وشيجة هذه العلاقة المثالية معه بعد رحيل والده. ورثاه في قصيدة لامية منحها عنوان: “الأبطال لا يموتون” عدّد فيها خصاله الجهادية في ساحات الوغى ومكارمه الإنسانية العالية ومكانته الاجتماعية السامية. ومن هذه القصيدة نقتطف الأبيات التالية:

شعبان رحلت فلا نحيب ولا عويل

لك في الخالدين ضلع وباع طويـل

“فورار” والقمم الشماء شــــاهدة

لبطولات ما لهن ندٌّ ولا مثيـــــــــل

من “صلاح الدين” نلتَ جرأتـــــه

ومن “خالد” أنت سيفه المسلــول

تبارك الله في سنين قضيتــــــــــها

بركاب الجهاد لا تحيد ولا تميـــــل

خصالك في الكفاح المرير ماثلــــة

وشهادات الرفاق فيك هي الدليـــل

حتى يقول:

سنبقى أوفياء لذكرك يا عــــــــمّنا

ونجمك لن يكون له أفــــــــــــــول

وضع الشاعر السبتي أحمان بين يدي ثلاث قصائد فقط، واستأمنني على عدم نشر القصيدة الثالثة التي تحمل عنوان: “وداعاً رفيقة العمر”. وهي قصيدة كتبها بمهجة طافحة بمرارة الألم بعد مرور عام من رحيل رفيقة دربه، وهي ربَّة بيتٍ بلغت مبلغا مرموقا في الطيبة والعِشرة وحب الخير للناس ونشره بين القريب والبعيد على حد سواء، كما علمتُ من أحد أقربائه. وفي هذه القصيدة تفجّرت أشجان مواجعه فائضة كحمم البراكين حين ثورانها، وطفت كلماتها كمقذوفاتها الحارقة.

أطال الله في عمر “عمي السبتي”، هكذا أفضِّل أن أدعوه محبَّة وتوقيرا، وحماه بسحائب الصبر الجميل وشمله بالسلوان المنسي، وعوّضه خيرا. ولا فُضّ فوه أو صمت لسانه أو جفّ أو شحّ أو عقُم يراعُه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!