-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الواقع العربي بين فكر بن نبي ونظريات الأفغاني وتوينبي

محمد شيدخ
  • 548
  • 0
الواقع العربي بين فكر بن نبي ونظريات الأفغاني وتوينبي

يعاني الوطن العربي والإسلامي في عمومه من هوان وضعف كبيرين على جميع الأصعدة تقريبا، ويتجلى ذلك في الاضطرابات السياسية التي تكاد لا تفارقه والضعف الاقتصادي الذي لازمه طويلا، ناهيك عن التخلف العلمي والمعرفي الذي يطبع المجال العلمي البائس، وكذا التدخلات الغربية المتكررة طوال عقود طويلة، فهل يا ترى ذلك مرتبط فعلا باستهداف بات يتكرر هنا وهناك من قبل القوى الغربية؟ ام ان عدو الامة العربية الاسلامية هو تخلفها المرتبط بأسباب عديدة؟
في عشرينيات القرن الماضي زعم الدكتور طه حسين العائد من فرنسا إلى مصر والمتشبِّع بالفكر الأوروبي بأن “سبب تخلف المسلمين هو تمسكهم المبالغ فيه بالإسلام وربطه بشؤون الدولة”، وقال بهذا كل من احمد أمين والعقاد، ونجد هذا الفكر مغروسا في أدب وأشعار جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة.
هذا التيار التغريبي تبناه بحدة أقل زعماء اليسار الإسلامي وعلى رأسهم الأستاذ المصري حسن حنفي في مشروعه الفكري الحداثي، إلى جانب دعاة التيار العقلاني ابتداء من الدكتور حسن الترابي الموريتاني والمفكر التجديدي الجزائري محمد أركون الى المفكر الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري… هؤلاء يرون ان مبالغة المسلمين في التمسك بحرْفية أحداث التاريخ وعجزهم عن إيجاد منهجية الخروج من واقعهم المرير هو المعضلة الحقيقية، ويؤسس بعضهم لفكرة جدلية النص الثابت والعقل المرن الذي يرشده.
وقام الإسلاميون الأصوليون بالرد على الدكتور طه حسين وأرجعوا سبب تخلف المسلمين إلى الاستدمارات والحروب الصليبية والتدخلات الأجنبية في جل البلدان العربية مما ابعدهم عن عجلة التاريخ الحضاري كلية.
وفي هذه الأجواء المكهربة والمشاحنات الفكرية الشائكة كان جواب الاستاذ الجزائري مالك بن نبي صوب الفئتين؛ إذ قال لدعاة التغريب إن الإسلام لم يكن يوما عائقا أمام التطور والتحضر وإن الدين الإسلامي صنع أعظم حضارة في تاريخ البشرية، وإن الغربيين تسلّموا مشعل حضارتهم من أيدي علماء مسلمين، وإن القيم الإسلامية هي قيم حضارية بامتياز.
وأردف بن نبي مخاطبا الاصوليين بأن سبب تخلفنا لا ينحصر في الاستدمارات المتوالية، ولو كان الأمر كذلك لكانت اليمن -وهي التي لم تدخلها أي قوة غربية- في ذروة التطور والتحضر، وهي اليوم تعاني الأمرِّين كغالبية الدول العربية التي عشعشت بها القوى الغربية عقودا طويلة.
ويرى المفكر مالك بن نبي أن سبب تخلف المسلمين هو نتيجة لمرحلة طويلة من الانهيارات في عالم الأفكار والثقافة، وسمّى هذه المرحلة “مرحلة ما بعد الموحدين”.
والسؤال المحير والذي بات يرهق كل مشتغل بالفكر الحضاري أو بفلسفة علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي هو “لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟” الذي أصبح من ارهاصات النهضة في المجتمعات العربية المعاصرة. يقول العلامة جمال الدين الأفغاني “إن الأزمة تلد الهمة ولا يتسع الأمر إلا إذا ضاق ولا يظهر نور الفجر إلا بعد الظلام الحالك” فلماذا يا ترى لم تتحرك الهممُ العربية وتؤسس لانبعاث حضاري يليق بمقام الأمة ويعيد لها مجدها الضائع بالرغم من توالي الأزمات، فأصبحنا بحق أمة ذات كتاب عظيم وواقع مرير؟ كيف لم تستطع أمة “اقرا” أن تجد لنفسها نظاما تعليميا خاصا ينقل القيم والثقافات والمعارف إلى الأجيال الجديدة بما يحفزها على الإبداع والابتكار وخلق مناخ علمي شامل يؤطر هذا الاتجاه؟ هل نظرية “التحدي والاستجابة” لصاحبها فيلسوف التاريخ والحضارات البريطاني جوزيف ارنولد توينبي والتي استلهما من دراسات طبيب الأعصاب السويسري كارل يونغ من خلال أفكاره حول علم النفس السلوكي والتي مفادها أن الفرد الذي يتعرض لصدمة ما قد يفقد توازنه طوال فترة معينة ثم يستجيب لها بإحدى الطريقتين: قد يعود فكريا إلى ماضيه ويستعيده ويتمسك به تعويضا عن واقعه المرير فيغدو انطوائيا وهذه الطريقة سماها المنهج السلبي، أما الطريقة الثانية والايجابية تكمن في تقبُّل الصدمة والاعتراف بها ثم محاولة التغلب عليها فيكون الفرد هنا انبساطيا.
كما شبّه ابن خلدون الدورة الحضارة بأحوال البشر من حيث حتمية الزوال إذ يقول “إنما الأمم كالبشر تزول كما يزول البشر”، وتشبيه المنظّر الإيديولوجي الألماني “اوزوالدشبونغلر” للدورة الحضارية بالدورة الحياتية للكائنات الحية فقد عمد توينبي إلى نفس الإسقاط واخضع مسار الحضارة إلى مسار الأفراد الذين يكوِّنون المجتمع المقصود بالدراسة، وقال إن الأمم المنكسرة لو بقيت تبكي على الأطلال وتستعيد أمجادها السالفة لبقيت في ذيل الركب لأن هذه الإستراتيجية سلبية، والانطلاق نحو المستقبل يكون بفهم الماضي وليس بالتقيد به والاقتداء بكل صغيرة وكبيرة فيه، ونحن للأسف عقولنا مسكونة بالماضوية الساكنة تستدعيها في كل حين، وأساس التحرر وجوهره هو الإبداع والاجتهاد وتخليص أنفسنا من الضغوط والكوابح الداخلية المعطلة لها.
إنّ دراسة تاريخ البشرية اليوم هو دراسة حضارتها وليس سرد الحوادث المتفرقة خلال مسارها، فهل حقا أجهض الواقع العربي المرير نظرية توينبي في التحدي والاستجابة، ونظرية الأفغاني في الأزمات والهمم ونحن نملك في جنباتنا ادوات حضارة تمتاز بالربانية كونها مرتبطة بالفكر الإسلامي ذي الجذور الربانية وذات الأبعاد الإنسانية والعالمية بكل شموليتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان ودعوتها للعلم والمعرفة والعطاء والتطور في قالب متوازن وهي بذلك تجمع بين الروح والمادة؟
لابد لنا من قراءة جادة لفكر مالك بن نبي رحمه الله الداعي إلى نبذ الانحلال الخلقي والفكري، ومحاربة الظلم والفقر، واستقرار القوانين والأنظمة، والاعتناء بالعلم وأهله، مع إيجاد القدوة والموجِّهين الأكفاء، وبروز الزعماء والقادة المخلصين. لقد كان مالك بن نبي رجلا محنكا صقلته التجارب والسنون وخبِرته الأحداث.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!