الرأي

الواقع المرّ والخيال الأمرّ!

ح.م

يُبالغ الجزائريون باهتمامهم المفرط بالعالم الافتراضي، حتى تحسبهم يخرجون من واقعهم المرّ من دون أن يشعروا، نحو عالم افتراضي أمرّ، ظنا منهم أنهم يسايرون التطور العلمي وما بلغته الأمم المتقدمة من قفزات تكنولوجية سريعة جدا، وهم في الحقيقة يعودون إلى الخلف بنفس السرعة.

من غير المعقول أن تتحوّل هذه المنصات إلى مرتع لكلّ معتوه فاشل في دراسته أو حياته الاجتماعية للانتقام من النجاح، بجرّ الآخرين إلى فشله، أو حاقد مجرّد من الأخلاق، لممارسة بغضائه، من خلال نشر سيرة الناس ولعب دور القاضي والنفساني وعالم الدين والاجتماع، فيحكم على هذا بالفساد وعلى تلك بالفجور، ويجد “شعبا” من متابعيه من الذين تهمهم سقطات الآخرين ويتمتعون بسادية غريبة وهم يقرؤون “الإفك” ويصدقونه حتى ولو كان من الكاذبين.

وإذا كان نقل تناقضات الساسة وزلات الوزراء وحماقات بعض رجالات السلطة، على نطاق واسع وتصديره إلى الخارج عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يتحمله هؤلاء الذين صاروا يتنفسون أخطاءً وخطيئة، فإن التوغل في الجزائر العميقة وتحويل أسرار البيوت إلى العلن وتبادل الصور والبحث عن الشهرة عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي التي يعيشها الجزائريون أكثر مما يعيشون حياتهم العادية، قد تجاوز الحدود، وصار من الضروري إعلان ثورة لا تبقي ولا تذر، حتى لا ينسى هؤلاء المدمنون – للأسف عددهم بالملايين – أن للصداقة ولمصادر الخبر وللأخلاق وللذكر والدعاء وللدراسة والتفوق مكانها الواقعي في الشارع والبيت والمدرسة والمسجد المعجون بالبذل والجهد الحقيقي، وليس عبر شطحات على “السناب شات” وأخواتها.

تحتفل مختلف بلاد العالم بأبنائها من الذين حققوا إنجازات علمية ورياضية واقتصادية وثقافية كبيرة، فتمنحهم الفخر والشهرة والعناية اللازمة، ويجدون السند من الشعوب كما من الأنظمة، فنجد الأديب البيروفي صاحب جائزة نوبل في الأدب “ماريو بارغاس يوسا” هو الشخصية الأكثر شهرة في البيرو وصفحته على مواقع التواصل الاجتماعي هي الأكثر تفاعلا في البلاد، ونجد لاعب التنس الإسباني “رفائيل نادال” هو الشخصية المؤثرة في البلاد من خلال تغريداته، ويفتخر الهولنديون بعازف الكامنجا “أوندري رييو”، ويشدّون إلى عزفه الرحال في العالم الافتراضي وفي الواقع، حتى ولو أقام حفلاته خارج هولندا، بينما يُدفَن الإبداع والإنجاز عندنا في مقبرة العالم الافتراضي، الذي صنع أبطالا من ورق، وشعبا خارج الحياة، يعيش حيث لا فائدة من العيش ويموت حيث يجب أن يعيش، ويحتفل بـ”عيد ميلاده” حيث يرقد من صنع حياته، كما فعل المدعو “ريفكا” ومن تبعه من فاقدي العقل وربما الدين.

نكاد نتنفس أزمات، كل حياتنا مشاكل وصعوبات، عجزنا عن التحرر من قيود استعمار النفط، مجتمعنا ينزف انتحارات وشجارات وهجرة سرّية عبر مصارعة الأمواج، وجسور الاتصال بين القمة والقاعدة مقطوعة، بعد أن نسفتها عقودٌ من فقدان الثقة، ولا أحد يبذل أدنى جهد لأجل معالجة هذا الواقع المرّ، فالكل هارب إلى الخيال الأمرّ!

مقالات ذات صلة