انتظروا حتى نموت ثم قولوا ما تريدون
نشرت “الشروق” يوم الاثنين حديثا لشاعر جزائري، توقف عطاؤه عند كلمات رائعة وجهها يوما لحزب جبهة التحرير الوطني قال له فيها: تجدد أو تعدد أو تبدد، وتجسدت في الحديث نغمة الغرور والاستعلاء، فراح يصدر أحكاما حمقاء تحت عنوان: الإبراهيمي وعميمور والميلي مسؤولون عن انحطاط البلد (هكذا).
وأسعدني أن قارئا جزائريا علق على المقال المنشور في الأنترنت قائلا: “الإبراهيمي ليس مفكرا ولم يقل إنه مفكر، ولا حتى عميمور، المفكر الوحيد في الجزائر هو أنت (أي الشاعر) بدليل أن الثقافة الجزائرية بادية عليك حتى فاضت على شكلك من خلال القبعة الجزائرية والسلسلة في يدك”.
وأنا لا أحب أن أستهين بأحد حتى ولو كان أهلا لذلك، لكن أزعجني أن صاحب القبعة تطاول على رجل في رحاب الله، فأصدر حكمه على الرئيس هواري بومدين قائلا: بومدين (..) كان محدود التكوين الثقافي، لم يكن له تكوينٌ ثقافي فكري عميق، هو رجل كفاح مسلح إلى جانب تعليمه الديني البسيط في القاهرة.
وكان على المذكور، إن كان حقا يريد أن نعترف له بوضعية المثقف المقتدر، أن يذكر لنا عدد حملة الشهادات الكبرى ممن تصدروا قيادة الثورة، والذين كانوا جميعا عصاميين من الدرجة المتميزة، اعترف بتميزهم العالم بأسره، عربا وعجما وفرنجة وأشباه فرنجة.
ولأن بومدين محدود التفكير، كما يدعي الشخص المذكور، فكان لا بد أن يستعين بأمثاله بالطبع، وهنا، يتفضل الأديب، بدون أي نطق تصغيري، فيمدح تكويني الطبي بقول يمزج المدح بالذم، كعادة من هم في مستواه، فيقول في معرض حديثه عن بومدين : “كان يدور حوله محي الدين عميمور، وهو ليس بالمفكر، هو طبيبٌ ذكي، يفقه في علاج الأمراض ولكنه ليس له منهجٌ فكري ولا كفاءة فكرية لكي يدرس تفاصيل الواقع الجزائري والذبذبات النفسية العميقة للمجتمع الجزائري لكي يتمكن من العمل فكريا مع بومدين في صياغة مشروع ثقافي فكري اشتراكي”.
ولأن المذكور اعترف لي بالذكاء الطبي فإنني أنصح بأنه في حاجة لطبيب نفسي يعالجه من النزعة النرجسية التي أصابته منذ أطلق صيحته المذكورة.
والواقع أن هذا المخلوق “يسال لي غراف ملح”، حسب التعبير المشهور للراحل الطاهر وطار.
كان ذلك في بداية التسعينيات، عندما فرّ المذكور من الجزائر، ربما لأنه رأى أنها أصغر منه، وروى فيما بعد حكايات روكامبولية عن اضطهاده من الأمن العسكري وغير العسكري.
وأنا أعود هنا لمذكراتي لأقتطف منها ما نشرته آنذاك.
أديب جزائري يعمل في صحيفة “العرب” في “لندن” الممولة من ليبيا، كنت سجلت أنه صاحب النداء الرائع لحزب جبهة التحرير الوطني، “يا حزب تجدد أو تعدد أو تبدد”.
ولم أكن أعرف الظروف التي غادر فيها الجزائر، وتصورت أنها رغبة في تحسين وضعيته أو ابتعاد عن موطن الشرر، وهذا وذاك أمر إنساني لا جدال فيه.
آنذاك كنت أكتب مقالات دورية في صحيفة الشرق الأوسط أستعرض فيها أحداث الجزائر وأحاول شرح معطياتها لقارئ تقدم له المعلومات غالبا من جانب واحد، وتحاول معظم المؤسسات الإعلامية المعادية تصفية حساباتها مع جزائر الثورة ودولة الاستقلال.
وكنت أرفض محاولات بعض الفارين إلى الخارج إثبات الوجود بالإساءة للتجربة الجزائرية، وتوزيع الاتهامات على كل من ارتبط بها، وبطريقة عشوائية لا تفرق بين ما يجب أن يقال خارج الوطن وما يجب أن يبقى داخل حدوده، وبفرض صحته.
كان معظم ما يُنشر خارج الوطن مستمدا من بعض صحفنا، وكان علي أن أقول (وأنا أورد ما كنت كتبته آنذاك في “الشرق الأوسط” بتاريخ 13 ديسمبر 1993 وأعدتُ نشره في كتابي : الجزائر: الحلم والكابوس) بأنه : “في بلد يسيطر عليه، اليوم، الإعلام المتأثر بالطروحات اللائكية، ويتعرض بشكل دائم ويومي لتأثيرات قنوات التلفزة الفرنسية التي تتفنن في إعطاء الكلمة لكل المنتمين للفكر الفرنسي، المُعادين، في معظمهم، للفكر العربي الإسلامي، تنسب جُلّ الاغتيالات الإجرامية للجناح السياسي المُتطرف الذي يلبس جلباب الإسلام”.
وفوجئت بمقال عنيف في صحيفة العرب يقول فيه المذكور: “السيد عميمور يُحمّل التيارات اللائكية أزمة الجزائر (ولم أفهم من كلّف الأديب بالدفاع عن تلك التيارات، ولا من أعطاه حق تجسيدها في نفسه).
ويواصل المذكور قائلا: “وقبل مناقشة أفكار السيد عميمور أريد أن أقول له بأن عددا ضخما من التصفيات السياسية الجسدية ارتكبت عندما كان هو مستشارا للرئيس هواري بو مدين، ولم يجرؤ الدكتور عميمور آنذاك أن يقول لا، وذلك لأنه كان مستفيدا من النظام بل كان أحد رموزه (..) وفي عهد الشاذلي بن جديد كنت أتابع، من موقعي كأمين وطني للعلاقات الخارجية باتحاد الكتاب الجزائريين، كتابات السيد عميمور، خاصة تلك التي كان “يتغزل” فيها (والفواصل من عندي) بالرئيس الشاذلي وهو يتنقل معه على متن الطائرة من ولاية إلى ولاية (…) كان يكتب منتشيا بمنصبه كمستشار للرئيس الشاذلي، رغم أن عهد الشاذلي ارتكبت فيه حماقات سياسية واقتصادية كثيرة (وكانت كتاباتي آنذاك، والتي أعدت نشرها في المجموعة الأولى من كتاب “لله وللوطن”، استعراضا لموقف الرئيس الجزائري المُشرف من غزو لبنان، ولم يفند الشاعر يومها حرفا واحدا منها، ولا تناول ما سماه في لندن فيما بعد حماقات الشاذلي)
ويواصل المذكور الإساءة المجانية لبلاده قائلا : “ولوحق أهل الرأي الحر من قبل البوليس وحتى وزارة الدفاع” (وهي بالطبع عناوين لوقائع لم يشرح تفاصيلها، ولم يستعرض أسماء من تعرضوا لها، ولكنها كافية ليقول خصوم الجزائر: وشهد شاهد من أهلها) ثم يقول: ” كل دماء الجزائريين التي تهدرُ الآن سيتحمل مسؤوليتها أمام الله كل الذين شاركوا في الحكم التعسفي بشكل مباشر أو غير مباشر (وكأن الأمانة الوطنية التي كان يشغلها المخلوق لم تكن مساهمة في الحكم بصورة ما، ولكنه يُعتم على ذلك ويقول) “نحن لم نكن في الحكم السياسي (وبالطبع، توقفتُ عند صفة السياسي، التي حاول باستعمالها أن يسحب نفسه من الأمر) بل أنتم الذين حكمتمونا وأسأتم حكمنا (…) قلناها عدة مرات بأنه كان من الصواب أن تستمر المرحلة الثانية من الانتخابات التشريعية، وكان من حق جبهة الإنقاذ أن تحكم لمدة أربع سنوات في حالة نجاحها في الدورة الثانية” (ولا أعرف أين نشر ذلك ولا لمن قاله).
ثم يقول : “لست أدري من يقصد الدكتور عميمور بالاتجاهات اللائكية والبربرية (…) أريد أن أعلمه بأن بربر الجزائر لا يحكمهم روحيا البابا بولص (…) نحن البربر نقف في طليعة من يُنادي بالوحدة العربية الأصيلة “(وواضح أن الوحدة العربية كانت هي الأغنية التي يحبها ممولو الصحيفة الليبية التي توفر العيش للمذكور في عاصمة الضباب).
وأرسلت لمدير الصحيفة السيد أحمد الهوني رسالة في 25 ديسمبر، نشرت كاملة تحت عنوان “سقوط الأقنعة”، وكان مما قلته: من حق الأديب، وهو يتحدث عن معاملة سيئة يقول إنه لقيها في وطنه، أن يشعر بالمرارة وأن يلوكها أو يجترها صباح مساء، ولكن ليس من حقه أن يبصقها في وجوهنا في كل مرة تتناقض فيها خلفياته مع ما يقرأه أو يسمعه أو يراه” ( وللعلم، فإنه وبتعليمات من محمد الشريف مساعدية، واصل ذلك الشخص كتاباته بشكل طبيعي في مجلة “المجاهد”، حتى بعد قصيدته التي أثارت بعض الأشخاص ضده، إلى أن قرر السفر إلى لندن، ومن هنا فإن تقديمه لنفسه في صورة شهيد لحرية التعبير فيه قولان)
ثم قلت : “أتصور أن القارئ الذي يعرف حجم إنجازات الجزائر، خصوصا في مرحلة السبعينيات، سوف يتساءل عن موضوعية كاتبٍ ينسبُ إلى رجل سياسي (هو أنا بالطبع) مسؤولية سلبيات مرحلة ما، من دون أن يُفكر لحظة واحدة في أن ينسب له بعض حسناتها، ولو كنتُ مكانه لذكرت حسنة واحدة تبررُ بقاء رجلٍ في مركز مُعين، وفي ظل ثلاثة رؤساء، نحو ثلاثَ عشرةَ سنة (…)
وطوال المدة التي مارست فيها مسؤولياتي كمستشار في رئاسة الجمهورية لا أذكر أنه تفضل بالاتصال بي مرة واحدة لعرض قضية ذات أهمية وطنية، ثم تقاعستُ عن تلبية طلبه (..) لكن الذين يفرون من الميدان لا يملكون الحق في مساءلة الجنود الذين ظلوا في الخنادق”.
وفضلتُ بعد ذلك أن أشرح للقارئ غير الجزائري قضية البربرية (التي لم أشر لها إطلاقا ولكن الأديب حشرها في حديثه لهدفٍ ارتآه) فقلت بأن: “الأمازيغ هم الأغلبية الساحقة بغض النظر عمّا إذا كانوا يستعملون لهجاتهم القديمة أو انصرفوا عنها إلى العربية (..) وهناك فرق شاسع بين النزعة البربرية، التي ترعاها وتنشطها الأكاديمية البربرية في باريس (..) وبين الشخصية الأمازيغية (..) ومن هنا يرفض الوطنيُّ، في تصوري، أن يسمح لأحد بالقول: نحن البربر نرى هذا، ونحن البربر نرفض ذاك، لأن القول يثير الشكوك وقد يقود إلى الاستنتاج الخاطئ بوجود أقلية بربرية مسحوقة، التهمتها أو على وشك أن تلتهمها أغلبية عربية متسلطة”.
وبعد أيام، وربما بضغط من إدارة الصحيفة، نشر أخونا توضيحا قال فيه مشكورا بأن: “ملاحظاتي لم تستهدف النيل من شخص الدكتور عميمور، الذي أعتبره، وهذا رأيي، من أبرز الصحافيين الجزائريين وأكثرهم كفاءة، وخلافي معه ليس عداوة وإنما تعبير عن نقاش فكري أخوي أرجو ألا يُفسد للود قضية، وهو منطلق من حرصي على مستقبل الجزائر الذي يُشاركني فيه الدكتور عميمور بدون أدنى شك” (…) ويبقى الراحل بومدين لحظة جميلة من عُمرنا الذي نتفق ونختلف معه، ومع الأسف فإن هذه اللحظة لم تعمر طويلا لتنضج”.
حدث ذلك في التسعينيات، ونسيت الأمر كله إلى أن تناول أزراج قضية كنت من شهودها، وتتعلق بموقف الرئيس هواري بومدين من مفدي زكريا، وتناولتُ الأمر في حصة متلفزة سجلتْ ما قلته بالصوت والصورة، وهكذا قلت:
كان ذلك جزءا من عملية الاستئساد الرخيص على الرئيس الراحل والتي عرفناها بعد وفاته، وقد قرأت ما كتبه شاعر قال حرفيا عن حوار بين بومدين ومفدي زكريا:.
سأله بومدين على مسمع منّا بلهجة يبدو فيها التوتر: “ماذا تفعل الآن؟ فأجاب الشاعر مفدي زكريا: “كتبت قصيدة جديدة عن الجزائر وسألقيها في هذا المهرجان”.
ثم سأله بومدين عن عنوان قصيدته، فقال مفدي “عنوانها: بنت العشرين”. وهنا قال له بومدين، الذي فهم على ما يبدو أن معنى العنوان هو “الفتاة العذراء، فقال للشاعر: “ولكن الجزائر قد تزوّجت من زمان ولها رجلها”
ويواصل الشاعر روايته زاعما بأن وجه مفدي زكريا احمَرّ (وشاعر الثورة أسمر اللون، فلا يمكن أن يبدو على وجهه أي احمرار) وظهر عليه القلق والاستياء، ويبدو أنه قد فهم أن الرئيس له حسابات معه، كونه مدح بقصيدة شعرية كلا من الرئيس بورقيبة والملك الحسن الثاني ولم يمدحه هو، باعتباره زوج الجزائر.
وكان ما قاله الشاعر اللندني كلاما أرجو أن يكون هناك من يؤكده، لأنني كنت في عين المكان، وكنت على بعد خطوات من الرئيس، أتابع ما يحدث لحظة بلحظة، فقد كان ذلك جزءا من عملي، وكان هناك آخرون من بينهم أدباء عرب.
وألاحظ هنا أن مفدي زكريا كان مدعوا للاحتفال ولم يكن مهمشا كما ادعى بعض الأشخاص، وبومدين كان يدردش مع الجميع بكل بساطة، وهو يرسل رسائله بكل ذكاء ولا يحاول إحراج أحد، ولم يحدث أن توتر واحد من الموجودين.
لكن يجب الاعتراف بأن القاعدة العامة في كل بلاد العالم أن أي شاعر أو أديب لا يمدح رئيس بلد يوجد في خصومة مع بلاده، على الأقل حتى لا يتهم بأنه يسعى وراء فوائد مادية، ونحن نعرف كرم الأشقاء المغاربة في هذا الصدد.
ويبقي أن أقول للمذكور ولغيره: انتظروا حتى نموت ثم قولوا ما تريدون، لأننا سنتصدى لكل مزاعمكم وكل الافتراءات.