الرأي

انتقام الأفكار المخذولة

أحيا بعض الجزائريين في الثامن عشر من هذا الشهر ما سموه “يوم الشهيد”، وهم في هذا الإحياء أزواج ثلاثة:

* زوج يحييه بروتوكوليا، وهم أكثر المسئولين الذين تحتّم عليهم مسئولياتهم التوجه إلى المقابر لوضع باقات من الزهور على نصب أعدت لمثل هذه المناسبات، ثم يقرأ أحد الأئمة فاتحة الكتاب –

* وزوج يحييه لما يحقق فليه من مآرب، حيث يستغل فرصة لقاء المسئولين الذين يتعذر عليه لقاؤهم في مكاتبهم، ولما يوزّع فيه من مآكل ومشارب، وما يقام فيه من مآدب.

*وزوج – وهو الأقل عددا – يحييه لما يعرف من فضل الشهيد وقيمته عند الله – عز وجل- وعند أولي النّهى.

إن منزلة الشهيد في ديننا الحنيف لا تعدلها منزلة أخرى، حتى إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أخبر أن كل من توفاه الله – عز وجل – لا يودّ الرجوع إلى الدنيا إلا الشهيد، حيث قال – عليه الصلاة والسلام – : “ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرّها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد، فإنه يسرّه أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى لما يرى من فضل الشهادة”.

إن من كرامة الشهداء عند الله – سبحانه وتعالى – أنه قضى أن يكونوا أحياء عنده، فقال – عز وجل : “ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون” (آل عمران 169)، وقال سبحانه وتعالى: “ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات، بل أحياء ولكن لا تشعرون” (البقرة 154).

إن هؤلاء الناس الأخيار ما قبلوا أن يحملوا أرواحهم على أكفهم، ويقبلوا على الله – عز وجل – جهادا في سبيله إلا امتلاء قلوبهم بالإيمان، هذا الإيمان الذي جعلهم يستجيبون لله ورسوله في نصرة دينه، وتطير أرض إسلامية دنّسها عدوّ صليبي حاقد، وأراد أن يطفئ نور الله فيها، ويمحو آيته المبصرة.. ولكن الله – عز وجل – أبطل كيده، وأزهق باطله عن طريق جنوده من المجاهدين الذين اتخذ منهم شهداء..

عندما كنت أشارك في بعض ذلك النشاط الخاص بيوم الشهيد، وأتابع بعضه عبر وسائل الإعلام قفز إلى ذهني تعبير استعمله الأستاذ مالك ابن نبي – رحمه الله – في كتابه “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”، وهذا التعبير – الذي جعله عنوانا لآخر فصل في ذلك الكتاب – هو “انتقام الأفكار المخذولة”، فرحت أقارن بين ما كان الشهداء يرجونه وما نحياه اليوم في وطننا مما لا يفرح إلا أعداءنا.

يعرف الكنود قبل الودود أن جميع الثورات التي شنها الشعب الجزائري المسلم ضد الصليبيين الفرنسيين لم تتخذ غير الإسلام شعارا، وكان هدفها من معركة اسطاوالي في 1830 إلى ثورة الأوراس في 1916 وثورة الهڤار، وجنات. هو نصر دين الله، وطرد العدو الفرنسي من الجزائر أرض الجهاد والإسلام…

وحتى الحركة الوطنية السياسية الحقيقية كانت إسلامية المبدإ والغاية، وأعني بالحركة الوطنية الحقيقية حزب النجم وما نسل (حزب الشعب)، (حزب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية) وجميعة العلماء المسلمين الجزائريين، وكانت هناك كمشتان أخريان لم يكن لهما أقل تأثير على الجزائريين، وكانت كل واحدة منها كما يقول المثل الجزائري “الطير يلغى وجناحه يرد عليه”. وأعني بالكمشتين ـ اللتين لا تملآن ـ ولو اجتمعا ـ ملعبا صغيرا ـ التيار الليبرالي العلمياني، والتيار الشيوعي الملحد.

فأما الكمشة التي اتخذت الليبرالية الفرنسية مثلا وقدوة لها فقد كانت كما قال أحد الفلاسفة الألمان “العبد يأخذ لغة سيده، حيث كان همها الأكبر وشغلها الشاغل أن تبدو كالفرنسيين قلبا وقالبا حتى ترضى عنها فرنسا وتلحقها بها، ولم تلد هذه الكمشة إلا أمثالها…

وأما الكمشة الأخرى فقد أضلها سامري هذا العصر وهو الشيوعية، التي لم تطعم الناس من جوع، ولم تأمنهم من خوف، وكانت الشيطان تعد وتمني، ولم تر تلك الكمشة في القضية الوطنية إلا مسألة “خبز” إن أشبع الجزائريون بطونهم مهدوا ظهورهم. ولذلك ـ كما أسلفت ـ لم يلق الجزائريون مُصرّا على الحنث العظيم أسماعهم، ولم يولوا أبصارهم لهذين الكمشتين وما يزال بعض أفرادها في ضلالة القديم وأذن المؤذن في 5 ربيع الأنور 1374هـ ( 1 نوفمبر 1954م) أن ” حي على الجهاد”، متخذا من اسمي المجاهدين “خالد – عقبة” كلمة السر، ومن الفكرة الإسلامية مبدأ وهدفا وذلك “إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية، ذات السياة ضمن إطار المبادئ الإسلامية”.

واستجاب الجزائريون ـ كرة أخرى ـ لله ورسوله اللذين دعواهم لما يحييهم، فشنوها حربا ضد فرنسا، حتى أحق الله الحق وأزهق الباطل، وأرى الشعب الجزائري بفطرته السليمة أن أولى الناس بالتهنئة بهذا النصر هو المجاهد الأكبر، والإمام الأعظم سيدنا محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فأنشد:

 .

“يا محمد مبروك عليك الجزائر رجعت ليك”.

وفي غفلة من الناس، وتهافت على المتاع، وإقبال على الشهوات تسلل إلى مفاصل تسيير الدولة الجزائرية أولئك الذين لم يكونوا “لا في العير ولا في النفير”، فأخرو الصادقين من المجاهدين، وجلبوا “لباسا” (*) من الشرق، و”أفكارا” (**) من الغرب، وفرضوا لسان العدو، وبذروا ـ كالشياطين ـ مال الشعب، وأحيوا دعوى الجاهلية المنتنة، وأشاعوا ـ باسم الثقافة ـ الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأهانوا أرامل الشهداء فاتخذوهن خادمات عند.. وفرضوا على الجزائريين أن يتحاكموا في قضاياهم إلى الطاغوت، وأحلوا ما حرم الله، وحرموا ما أحل وصيروا جحيما، وهي الجزائر التي خلقها الله جنة، وأضحكوا عليها الشعوب وهي التي كانت “قطعة قدسية، في الكون” تخر لها الجبابر وتركع، و.. و.. وصدق مفدي زكريا في قوله:

مهازل تضحك الأحجار منها           وينتحب الشهيد لها انتحابا (1)

إن ما نراه وما نلمسه من تدهور فظيع في وطننا في جميع الميادين وعلى جميع المستويات ما أراه – كما قال ابن نبي – إلا انتقاما لتلك الأفكار النبيلة التي خذلناها بالفعل وبالسكوت، ولتلك الأمانات التي خُنّاها، حتى صار بعضنا يتشرف بتقبيل أيدي أعدائنا ذكرانا وإناثا.

وأختم هذه الكلمة ببيتين من الشعر لمن تغنى بثورتنا المجيدة حتى سمي “شاعر الثورة” – أعني مفدي زكريا-  حيث يقول في أحدهما:

وقالوا: استقلّت، فقلت: استُغلّت          وغلّلها وحشها الكاسر (2)

ويقول الآخر:

أمليون من الشهداء بأرض                لتنسكب الخمور بها انسكابا(3)

لقد نسينا الله وخادعناه فأنسانا أنفسنا، وهو خادعنا.

.

هوامش:

*) المقصود باللبساس اللباس الصيني المنسوب لماوتسي تونغ الذي جاءنا به أحمد ابن بلة.

**) المقصود بالأفكار “الاشتراكية / الشيوعية “التي جيء بها من يوغوسلافيا.

1 2 3) ديوان “أمجادنا تتكلم” لمفدي زكرياء: صفحات 387  و 305  و 286..

مقالات ذات صلة