-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بئس الأم…!

نادية شريف
  • 4007
  • 6
بئس الأم…!
الشروق

كان اليوم يوم سبت، وكان أول أيام العطلة الربيعية.. المكان يغص بالزوار الذين جاؤوا من كل حدب وصوب، والطرقات المؤدية إليه تحولت إلى طوفان بشري يتدفق منه الأطفال والمراهقون، والآباء، وكثير من العشاق..! كانت الصورة مخيفة وتنذر بتدافع كبير، ومتاعب أكبر ومشاق تُذهب عنك كل شعور بالمتعة أو التسلية، وتدفع بكل عاقل أن يعود أدراجه، لكن ولأن الأمر يتعلق بطفلي محمد وشريف العنيدين آخري العنقود، فالتراجع لم يكن مطروحا البتة ولا مسموحا به على الإطلاق…

حديقة التسلية بنادي الصنوبر تحولت في هذا اليوم “المتعب” إلى سوق شعبي كبير اختلط فيها الحابل بالنابل، طوابير طويلة طويلة تقصم الظهر في كل مكان، أمام كل الألعاب، وأكشاك المأكولات والحلويات ودورة المياه.. لم يسلم من هذه “المصيبة” والحمد لله  إلا المصلى. ولعل أحسن ما في هذا الفضاء أن أصحابه فكروا في تخصيص مكان للصلاة مصلى للرجال ومصلى للنساء…

ولأن الإقبال كان كبيرا فإن الانتظار للفوز بلعبة كان طويلا أيضا، فلا مفر من اصطفاف الأطفال وذويهم في صفوف طويلة، كل ينتظر دوره، وهنا يمكنك أن تكتشف كيف يتعلم الأطفال الغش، والاعتداء على حقوق الآخرين ومن يعلمهم ذلك، ويزين لهم تلك الأفعال فيضللهم منذ الصغر بمفاهيم مغلوطة ويضعهم على درب الانحراف…
جاءت تجري تنظر يمنة ويسرة تمسك بيدي ولديها بيديها الاثنتين، تحتج على الأولياء الذين يرافقون أبناءهم في رواق الاصطفاف، قائلة دعوهم لوحدهم ونحن نراقبهم هكذا من بعيد فكلهم أطفال صغار، الاقتراح أعجب الشاب القائم على اللعبة فطلب من الأولياء أن اخرجوا من الرواق، ففعلوا بصعوبة كبيرة.. وما إن انتهت اللعبة، وبدأ الأطفال يتقدمون حتى سارعت السيدة التي كان يبدو عليها الوقار والاحترام لتمسك بمجموعة من الأطفال كانوا يتقدمون طفليها لتمررهما إلى أول الصف متظاهرة أنها تنظمهم وقد تنبه الجميع لفعلتها الشنيعة في تأخير أبناء الناس وتقديم ابنيها حتى يصلا قبل من كانوا قبلهم… وكانت الفرحة بادية على الطفلين وأمهما، والسعادة تغمرهم، فقد كانت من “الشطارة” ما مكنها من أن توفر عليهما عناء الانتظار واحترام “الدور”.. الأكيد أن هذين الطفلين سيعتبران أمهما بطلة ومتفوقة، وسيتربيان على هذه العقلية ويكبران بقناعة راسخة أن تجاوز الآخرين والتحايل عليهم من صفات البطولة والشطارة!
أما عند لعبة العجلة الكبيرة فقد تجاوز صف الانتظار الرواق المخصص لذلك بكثير، فكان العشاق الذين تسللوا إلى الحديقة بالتواطؤ مع بعض الأمهات اللائي ادعين عند المدخل أنهم أبناؤهم لتضليل الحراس، يتسللون الواحد تلو الآخر عند بداية القضبان والناس وراءهم رجالا ونساء وأطفالا يترقبون… وهنا يتكرر السيناريو نفسه مع بعض الاختلاف في التفاصيل فقط.. فقد جاءت الأم رفقة أبنائها وبناتها تتمطى، ثم آوت إلى جذع الشجرة وأومأت لأبنائها أن أدخلوا من هنا كما يفعل هؤلاء الغشاشين، ففعلوا..
تقدمت من أحدهم قائلا:” لماذا تفعل هكذا يا بني قل لي فقط هل تعتقد أنك أحسن من كل هؤلاء الرجال والنساء والأطفال الذين ينتظرون على مد البصر؟”.. ارتبك الشاب ثم رد قائلا: “لا ولكننا في عجلة من أمرنا”، قلت له :”كل الناس في عجلة…” فتقدمت الأم مخاطبة ابنها ونظرها موجه إلي، وكان واضحا مرادها:” شوف وليدي كي تكمل أعطيني الكانيطا هاني هنا..” لم أستسلم للاستفزاز وما كان لي أن أكلمها فأنا لا أحسن فن المشادات الكلامية وقد كان باديا عليها الاستعداد لذلك والقدرة على اتقانه…
هذه السيدة تعتقد أنها أنجزت بطولة وتحديا كبيرين بأن مكنت أبناءها من التمتع بسرعة ودون انتظار طويل.. وكذلك الأطفال يعتقدون أنهم أحسن وأفضل الناس الموجودين في الحديقة كلها بدليل أن لا شيء يعجزهم… وهذه طامة كبرى تفسر ما نلاحظه اليوم من انحراف واعتداءات وعنف في الشوارع والأحياء والعمارات بين الشباب والسكان والأحياء أيضا.. فالطفل الذي تربى على عقلية الوصول قبل الآخرين، بفضل أمه، وإن كان آخر الملتحقين، سيظل يتصرف بهذه العقلية تلميذا في المدرسة يعتدي على حقوق زملائه، وشابا في الشارع ينتهك حقوق أصدقائه، ورجلا في الحياة يستبيح كل شيء ليكون أول المستفيدين من كل شيء، إذ يعتقد في قرارة نفسه أن ذلك من حقه، وإذا اصطدم بإرادة تنازعه نفس التوجه سيلجأ إلى العنف…
المشاهد نفسها تتكرر أمام مختلف الألعاب مع بعض الاختلافات في التفاصيل فقط… السلوك كان غريبا وصادما، لكنه كان مؤشرا يفسر للغافل وحتى المتتبع الفطن خلفيات الكثير من الآفات والانحرافات، والظواهر الغريبة الدخيلة على المجتمع…
إن مظاهر سوء التربية والأدب التي أضحت تطبع سلوكات المجتمع، والاستعداد العفوي للاعتداء على الآخر، وانتهاك حقه، والعنف المنقطع النظير الذي طبع سلوكات الكثير من الجزائريين، تجد أسبابها الدفينة في طبيعة التربية التي يتلقاها الجزائريون أطفالا فيشِبُّون عليها.. ويَشِيبُون عليها.. والأم هي المدرسة الأولى التي يتلقى فيها الطفل أول دروسه في التربية والتنشئة، ثم المدرسة ثم المجتمع كمؤسسات مكملة لهذه التربية والتنشئة..
 الأم  – كما قال شاعر النيل حافظ إبراهيم – مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق..  ومادامت الأم على شاكلة هذه النماذج التي ضربت لنا مثلا في حديقة التسلية، ونشاهد مثيلاتها  في الأماكن العمومية فمن الطبيعي أن نكون أمام مجتمع يسوده الانحراف والجريمة … وكل الآفات التي غزت وتغزو حياتنا، فبئس الأم هذه وبئس التربية تلك
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
6
  • الطيب

    امهات يتطاهرن بالثقفة...لكن صفر..في الكبوط كما يقال

  • nadia

    ana rabit wlid yahtaram nas mayadich placat ali kablou mais mayasmahch fi hakou ghir chikh wala 3jouza

  • بدون اسم

    ربما ان لم يركب العجلة سوف يفقد اهم شيء معنوي في حياته وهو الخوف من السماء فليطير سيعود

  • بدون اسم

    حاسب نفسو مالك بن نبي في حديقة الحيوانات يا اخي الكاتب انها ليست حديقة حيوانات بل الحيوانات في سلام ووئام وتآزر ومودة وان كان صيدا يتمتع باشعة الشمس وان كانت قردة او غوريلا قامت لشغلها واكلت قمل اطفالها واستعدت لتسلق الاشجار حاملة وراءها ما يجعلها تسير وتحرك نفسها نحو الطبيعة بسخاء وروية وعبث وايصا تنافس والرعية تتسابق على كسر الحاجز نحو هاته الامم انما الامم ما يقيت ان ذهبت اخلاقهم ذهبوا فلنتفرج فقط فليس للعبد اجمل من الطبيعة بدون عجلة ولا حتى ميكي ماوس تتثور معاه او تدفع

  • Keltoum

    المشكل ان هم يتجاوزن حدودهم باسم الشطارة و كي تضرب على حقك تحصل و تولي انتا تاع مشاكل.

  • أمال السائحي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    أخي الكريم: أحييك على هذا المقال،وأحييك على هذه الأمثال الواقعية التي استشهدت بها، فهي في عمق جزائرنا الحبيبة، ما هكذا نريد من الأم المربية، التي تبعث لنا على شاكلتها أمهات المستقبل، ولهذا مجتمعنا بكل أسف وحسرة لن تقوم له قائمة مادامت العقليات تفكر بهذا الأسلوب المتدني...شكرا لك موضوع يستحق النشر، فنحن بحاجة ماسة إلى غسل الذهنيات وخاصة في الرقي بالقيم الأخلاقية ، للأسف مازلنا نستعمل سيدي كما ذكرت "الشطارة" ومن باب التذكير فنحن بحاجة ماسة إلى مرافق عدة لأولادنا و لأنفسنا