-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بذور فناء الاقتصاد

د. عمر هارون
  • 416
  • 0
بذور فناء الاقتصاد

إنّ الأمم تتطور وتستقرّ وتعود لتهوي في غياهبم التخلف، مسار أقره ابن خلدون وفصّله من بعده مالك بن نبي وهو الذي يرى بأن الحضارة التي تعتبر أساس تطور الأمم تقوم على الإنسان والتراب والوقت يضاف لهم المفعّل الديني، إن الفراغ الروحي الذي يعيشه الغرب جعله اليوم يصل إلى مرحلة يقترب فيها إلى حد بعيد من بداية الانهيار، فالحضارة لم تعد سوى شعار ينكشف زيفه كل يوم أكثر فأكثر.

الندرة تكشف معدن الشعوب وحكامها

إلى وقت قريب كان الأوربيون مضربا للمثل في التحضر والقيم المجتمعية، بل كان الجميع يرى أن قمة الحضارة هي التشبه بما هو موجود في العواصم الأوروبية، إلى أن جاء الكوفيد وانتشرت مظاهر الأنانية، فتحول الأوربيون بين ليلة وضحاها إلى شعوب تبحث عن مصلحتها الشخصية، فتقتني السلع وتكدسها بشكل هستيري عكس ما كان في الدول الآسيوية على غرار الصين واليابان مثلا والتي حافظت فيها الشعوب على توازنها الحضاري واستطاعت أن تنجو من المرحلة دون أن تفقد احترامها لمبادئها الحقيقية، واقع امتد أثره للحكومات إذ انتشرت عملية قرصنة الطائرات والبواخر وتحويل مسارها للاستفادة من الأدوات الطبية التي كانت تحملها، فتحولت النكبة من الشعوب إلى الحكومات.

الإنسانية والكيل بمكيالين

لم يعد خفيًّا على أحد أن العالم يرى شعبا كالفلسطينيين بشرا من الدرجة العاشرة، فقتل فلسطيني من قبل جيش الاحتلال الصهيوني لا يعتبر حدثا أصلا في الإعلام الغربي بل أن الأمر وصل إلى درجة التصفيات الجسدية التي تتم في كل مرة بدم بارد، لكن في المقابل يمكن صناعة قضايا من لاشيء وتحويلها إلى حروب يُسحق فيها الأخضر واليابس دون أن ينكر أحد، وما حدث ويحدث في ليبيا والعراق وسوريا ليس بالبعيد، لكن وكما يعلم الجميع فمصالح إعادة الإعمار التي يمكن أن تتجاوز تكلفتها الـ700 مليار دولار في بغداد ودمشق وطرابلس أهم بآلاف المرات من الملايين الأرواح التي سُحقت وستسحق.

أوكرانيا منعطف اللاعودة للإنسان الأوروبي

الأزمة الروسية الأوكرانية التي دخلت شهرها العاشر لم تعد مجرد أزمة عسكرية لها آثار سياسية واقتصادية، بل مرحلة جديدة في حياة الشعوب خاصة الأوروبية منها، فالصراع القائم الآن هو صراع حضاري بامتياز بين غربٍ متطرف في البحث عن مصالحه، يرى بأن له الأحقية في كل شيء نظرا لأن القوة في صفه وفق منطق “الكاوبوي” فيأمر وينهى دون أن يخشى شيئا، وبين حلفٍ يبحث عن مساحة للتطوُّر وتحسين فرصه في ترقية مكانته الاقتصادية والاجتماعية، بشكل فيه عدالة قادرة على جعل المنافسة منطقية والصراع لا أحد فيه متضرر أكثر من الأبرياء من المدنيين. صراع يأمر فيه المحتاج والمتضرر بأن لا يبيعه عدوه برميل النفط بأكثر من 60 دولارا وهو في أمسّ الحاجة إليه لتسيير مصانعه وحماية مواطنيه من التجمد، فبأي منطق يفكر الأوروبيون؟

إن معدل أعمار الدول الأوربية في ارتفاع مستمر، وهذا يعني حاجتها إلى مزيد من اليد العاملة الشابة، واقع لا يمكن الوصول إليه في مجتمع دمَّر منظومة الزواج منذ عشرات السنين، وهاهو يعمل على تدمير الفطرة السليمة من خلال العمل على تحقير المنطق من خلال توطين الشذوذ كأصل في المجتمع، ومنه ستتحوّل القارة من سيء إلى أسوأ في مستويات التعداد السكاني ومعدلات الأعمار.

إن الاستنتاج الوحيد الذي يمكن أن أصل إليه أن العقل الأوروبي الذي كان ولا يزال يرى تفوّقه طبيعيا وحتميا، ليس إلا نتيجة لفراغ عاشته الدول على الضفف الأخرى، تفوّق نتيجة لظروف مرتبطة في أغلبها بالاستعمار الغاشم الذي دمر الأخضر واليابس وبقي يؤثر بطريقة أو بأخرى إلى يوم الناس هذا فيها في مستعمراته السابقة، لكن الأمر يستحيل أن يدوم إلا ما لا نهاية.

الإنسانية والشذوذ وبذور الفناء

إن معدل أعمار الدول الأوربية في ارتفاع مستمر، وهذا يعني حاجتها إلى مزيد من اليد العاملة الشابة، واقع لا يمكن الوصول إليه في مجتمع دمَّر منظومة الزواج منذ عشرات السنين، وهاهو يعمل على تدمير الفطرة السليمة من خلال العمل على تحقير المنطق من خلال توطين الشذوذ كأصل في المجتمع، ومنه ستتحوّل القارة من سيء إلى أسوأ في مستويات التعداد السكاني ومعدلات الأعمار، عكس دول كالصين والهند وحتى الدول الإفريقية التي كانت ولا تزال تعتبر الحديث عن هذه القضايا طابو لا يمكن الخوض فيه، ومنه فإن المسار الذي دخلت فيه الدول الأوروبية يحمل بذور فناء قارة بأكملها نظرا لأن المنطق يقول إن التطور البشري بمنطقهم الشاذ يستحيل أن يكون، ولا يمكنني أن أقتنع أن مجتمعات توجِّه دفتها للزوال المحتوم قادرة على إنقاذ نفسها من أزمة كالتي تدور رحاها الآن مع روسيا، حتى وإن وضعت الحرب أوزارها فإننا سرعان ما سندخل في أزمات جديدة.

الاقتصاد علمٌ اجتماعي

إن الاقتصاد علم اجتماعي بامتياز فلا يمكن أن ينكر أحدٌ دور الثقافة الاجتماعية في تطور الاقتصاد ونموه، ولعل الأزمات التي تعانيها الدول الغربية مؤخرا نتيجة نقص اليد العاملة والتي حتَّمت عليها فتح الباب أمام الهجرة الانتقائية دليلٌ واضح على أن الاختلالات الاجتماعية الناتجة عن تراجع نِسب الولادات وتأثير “مجتمع الميم” في الفلسفة الاجتماعية، إن الضغوط المتزايدة على المهاجرين لتقبل الأفكار التي تتعارض مع مبادئهم ومعتقداتهم ستجعل لا محالة هذه الدول أمام حالة يسود المهاجرون فيها نظرا لتراجع عدد السكان الأصليين بمتتالية هندسية، وهو أمرٌ محتوم سيكون واضحا خلال النصف الثاني من القرن الجاري، وهو ما يعني أن السِّحر سرعان ما سينقلب على الساحر ويعود الوضع إلى أصله، إذ سيجد مدعي الحضارة أنه أصبح خارج حسابات الكون.

 اللامنطق كيف يمكن أن ينقذ الحضارة؟

من خلال العناوين الماضية حاولتُ أن أقدّم مجموعة من الأمثلة حول التيه الحضاري الذي تعيشه الدول الغربية خاصة الأوروبية منها، وهو واقعٌ له تأثير مباشر على تنافسية اقتصادياتها، خاصة أن المرحلة أظهرت الفقر الكبير الذي تعيشه في مجال الموارد والمواد الأولية، وهو ما يعني أننا أمام مرحلةٍ حاسمة في قدرة المجتمعات الغربية على الخروج سليمة من هذه المرحلة خاصة أن الحليف التاريخي لأوروبا والمتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية أصبح أوَّل مستفيد من الضعف الاقتصادي الذي تعيشه القارة العجوز، من خلال محاولة جعل الأزمة التي تمر بها منطقة اليورو الرافعة التي تمتصُّ الفجوة التي خلقها التضخُّم في النمو الاقتصادي.

وحين ترفع أمريكا معدلات الفائدة لامتصاص الكتلة النقدية وامتصاص التضخم، وهو ما قد يرفع من نسب انكماش الاقتصاد، يكون هذا في صالح الاقتصاد الأمريكي الذي يستقطب بهذا الإجراء أموال المستثمرين الأوروبيين الذي بدؤوا يفقدون الثقة في اقتصاد منطقة اليورو الذي يتبع نفس الأسلوب لكن بأقلّ قدرة على تطمين المستثمرين.

لو كان ما يمر به الاقتصاد الأوروبي أزمة مالية أو نقدية لكانت إمكانية حلها قائمة كما حصل في أزمة الديون اليونانية أو أزمة الرهن العقاري وقبلها أزمة الكساد الكبير التي ضرب أمريكا وأثرت على أوروبا، لكن الأزمة التي تعيشها اليوم أوروبا أزمة حضارية عمقها امتدّ إلى الجذور التي تقوم عليها الحياة، ولا يمكن لمن عارض مبادئ الحياة أن يستمر فكيف إن طلب التطور.

omarharoun88@gmail.com

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!