الرأي

بكم بِعت المحمودي … يا غنوشي؟

محمد يعقوبي
  • 5586
  • 29

الأخبار الواردة من ليبيا حول استمرار تعذيب آخر رئيس وزراء في عهد العقيد القذافي البغدادي المحمودي، والحديث عن وجوده في مصلحة الإنعاش بعد أن دشدش “الثوار” رأسه وأهانوا شيبته وانتهكوا مناطق حساسة من جسمه، تجعلنا نلعن اليوم الذي صدقنا فيه شعارات الإسلامين حول احترام كرامة الإنسان والدفاع عنه والتضحية من أجله، فجماعة راشد الغنوشي الإسلامية التي أعطاها الشعب التونسي السلطة، تخلت عن علة وجودها وباعت قيمة إنسانية لا تقدر بثمن بل ولا تقبل حتى التفاوض..

إن رؤية الذل الذي عاشه البغدادي لحظة التسليم وبعده إلى ما يعيشه الآن، تجعلنا جميعا نحتقر مستوى النذالة التي تسمح لدولة ما بتعريض حياة شخص مهما كانت جرائمه للخطر المحدق، طالما الجميع متأكد من غياب ضمانات المحاكمة العادلة لأي من أزلام القذافي على جرائمهم الفضيعة، التي لاتبرر إطلاقا الاستهتار بقيم وحقوق الإنسان خاصة وان الإسلاميين يرفعون شعار “الإسلام هو الحل” ويقنعوننا في كل المناسبات أن علة وجودهم هي الدفاع عن كرامة الانسان والتضحية من أجله، لكن النهضة التونسية خيبت آمال الشرفاء والأحرار في العالم عندما أقدمت وبكل سفالة على تسليم البغدادي المحمودي إلى السلطات الليبية الجديدة، وهي تعلم علم اليقين أن مصير الرجل سيكون العذاب والموت قبل أن تكتمل فصول محاكمته المزعومة.

نعم … سلم الغنوشي أو بأمر منه رقبة المحمودي للجلاّدين وقد كان الرجل مقبوضا عليه في حكم المستجير الذي أوصى به الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى ولو كان كافرا، لكن حركة النهضة الإسلامية التي استتبشرنا خيرا بفوزها في تونس، وقعت في الخطيئة الإنسانية وأعدمت بشكل غير مباشر رجلا استجار بالشعب التونسي لإنقاذ حياته، على أمل أن ترق قلوب الحكام الجدد لتونس ويحموه من القتل المحتوم الذي طال الكثير من أمثاله دون محاكمات وعلى رأسهم معمر القذافي نفسه .. استجار المحمودي بالشعب التونسي وكان في نيته دخول التراب الجزائري إلا أن ضغوط الليبيين وأموالهم وابتزازهم جعل الغنوشي (وهو الأب الروحي للنظام التونسي الجديد) يرضخ ويساوم في قيمة إنسانية لا يساوم عليها الرجال الشرفاء في كل العالم، بل ويبيع رقبة المحمودي مقابل بعض المزايا التي سيتصدق بها الحكام الجدد لليبيا على تونس الجديدة لإنقاذها مما هي فيه، وقد كان الرئيس المرزوقي أكثر رجولة وإنسانية من إسلاميي النهضة، لأنه رفض خنوع رئيس الوزراء الإسلامي حمادي الجبالي، رغم أن المرزوقي رجل يساري بعيد كل البعد عن شعارات الإسلاميين التي اجتاحوا بها الربيع العربي، لكنه سجل موقفا يعبر بالفعل عن نبل وأخلاق الانسان التونسي الذي أبدا لا يرفض إيواء المستجيرين به من بطش الإخوة الاعداء، مثلما تفعل الجزائر مع عائلة القذافي، فالاعتبارات والقيم الإنسانية كرّسها الإسلام قبل أن تدونها مواثيق حقوق الانسان، وللأسف شكلت تونس الجديدة خرقا صارخا لهذه القيم، وكان الحكام في موريتانيا أنبل وأشرف من حكومة النهضة لأنهم يرفضون إلى الآن تسليم السنوسي وهو الأكثر إجراما من البغدادي، وكذلك تفعل دولة ضعيفة مثل النيجر التي ترفض هي الأخرى تسليم الساعدي القذافي، أما موقف الجزائر ومصر فلعله الموقف الأكثر إنسانية، فالدولتان ترفضان تسليم أفراد من عائلة القذافي ورفاقه إلى السلطات الليبية الجديدة التي هي عاجزة حتى على حماية أمن المواطن الليبي الشقيق فما بالك بحماية الأسرى والمساجين الموالين للقذافي، الذين قتل الكثير منهم تحت التعذيب وانتهكت أعراض البعض الآخر بوحشية.. أما النساء فحدث ولا حرج … في مجتمع لا يزال في مرحلة التحول ولم يهضم بعد حتمية التعايش..فعندما تسأل بعض الثوار لماذا قتلتم القذافي بتلك البشاعة ؟ يقولون لك “ألم ترى ما فعله هو بالشعب الليبي من قهر وظلم وقتل” ؟ .. وهم هنا لا يفرقون بين الحق في الدفاع عن النفس وبين تكريس قانون الغاب في مجتمع قبلي مستعد للمواجهة المسلحة على أتفه الأسباب.

ونحن هنا نفرق جيدا بين حق القضاء الليبي في القصاص من أزلام القذافي الذين عاثوا في الأرض فسادا، وبين تلك القيم الانسانية التي تحتم علينا كمسلمين حماية المستجير بنا مثلما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم حتى مع الكفار، وتعطي الحق في المقابل لكل متهم في محاكمة عادلة تتوفر له فيها شروط التقاضي المتعارف عليها دوليا وإنسانيا، وهي ليست متوفرة الآن في ليبيا مع إقرارنا بأن هؤلاء الأزلام ارتكبوا من الجرائم ما يستحق الإعدام، لكن ليس على الطريقة التي عذب وقتل بها القذافي وإبنه والكثير من أتباعه، لان ذلك من شأنه أن يغرس الحقد والضغينة لعقود في المجتمع الليبي، بل من خلال العدالة حتى لا يعاقب مواطن ليبي بجريرة مواطن ليبي آخر.. ثم أليس من حقنا كمحبين لليبيا ومناصرين لثورتها أن نطالب بمحاكمة الأزلام الذين كانوا إلى جانب القذافي وشاركوا في جرائمة وهم الآن يحكمون ليبيا باسم الثورة.. قتلوا الآلاف ثم يريدون أن يبيضوا صورتهم دون أن تأخذ العدالة مجراها؟ أليس من حق الليبيين أن يحاسبوا كل أعوان القذافي حتى بعض الذين يقودون المجلس الانتقالي؟

فمن ظل يقتل ويغتصب لأكثر من 40 سنة أولى بالقصاص ممن تلطخت أيديهم بالدماء أيام ثورة 17 فبراير.. وعلى الثورة أن تلفظ المتسلقين الذين انتهكوا الحرمات ويريدون اليوم أن يلاحقوا رفاقهم في الإجرام.

مقالات ذات صلة