الشروق العربي

بلاد النسا

نورهان بليدي
  • 4953
  • 58
ح.م

الظاهرة الجديدة التي بدأت تغير من شكل الجزائر وبنيتها “الذكورية”، أصبحت أكبر من أن نتجاهلها، فسيطرة الإناث على الذكور في نسبة النجاح في مختلف الأطوار التعليمية، وسيطرتهن شبه المطلقة في أعداد المتقدمين للترشح، وفي التوظيف في قطاعات كاملة كالتعليم والصحة وغيرها، تستدعي وقفة للبحث في الظاهرة التي أراها خطيرة وكارثية من حيث فقدان المجتمع لتوازنه المطلوب، واتساقه الجميل.

لقد رافقت ابنتي في خلال أدائها لامتحانات شهادة الباكالوريا يوما بيوم، وأكثر ما كان يثيرني هو الغياب شبه الكامل للذكور من المركز الذي تمتحن فيه ابنتي، والذي أثارني أكثر أن النسبة القليلة من الذكور المشاركين كانت تظهر عليهم علامات عدم الاهتمام واضحة، فبينما تصطف الفتيات في طوابير يراجعن حتى الدقائق الأخيرة قبيل الامتحان دروسهن، بتركيز وإصرار كبيرين، يغرق الذكور في تدخين السيجارة أو حكاية النكت وأخبار المونديال، في حين يكون هؤلاء الذكور أول من يخرج من مركز الامتحان من دون أن تظهر عيلهم أي آثار للحزن أو الفرح، بينما تتأخر الإناث حتى الدقائق الأخيرة، مع موجات من الغثيان والبكاء في حال استشعار صعوبة الامتحان، من شدة اهتمامهن بالأمر، واعتباره قضية مصيرية.

وكنت قبل ذلك قد زرت جامعات الجزائر كلها تقريبا، وكانت نفس الملاحظة تبرز في كل مكان، حتى دخلت يوما الى جامعة بوزريعة بالعاصمة فلم أكد أجد طالبا ذكرا واحدا، الأمر الذي ذكرني أنني كنت كطالبة جامعية في بداية التسعينات من القرن الماضي، أشعر بسطوة العنصر الرجالي بين الطلبة، حتى أننا في معهد العلوم السياسية كانت توجد أقسام بأكملها من الذكور، ولا تجد فيها طالبة واحدة، وهو الأمر الذي كان اشد وضوحا في الجامعات ومراكز البحث في سنوات الستينات والسبعينات، أين كان “الموسطاش” هو سيد الموقف بلا منازع.

ما الذي حدث حتى تغيرت الدنيا بهذا الشكل؟ ولماذا “كره” الرجال التعليم واصبحت الشهادات لا تعني لهم شيئا تقريبا، بينما تصر الاناث على الحصول على تلك الشهادات بأي ثمن؟ أتصور أن القضية ليست مرتبطة بالتفوق الفكري للإناث، لأن هذه النظرية يدحضها الواقع، وإنما هي مرتبطة بطبيعة التوجهات العامة في البلاد، والتي أصبحت فيها الشهادة بالنسبة للمرأة، ليست هدفا علميا في حد ذاته، بقدر ما تحولت إلى وسيلة للتحرر من البيت و(قعاد الدار) كما يقال، وطريقا للبحث عن فرص أخرى للعيش والاستقلالية المادية عبر الوظيفة، بل وتحولت الشهادة إلى وسيلة فتاكة للهروب من دائرة الزواج التقليدي إلى ما يمكن تسميته الزواج الرومانسي، عبر امتلاك فرص أفضل للحب.

هذا هو تصوري، وإن كنت أعتقد أن تشجيع الدولة للعنصر النسوي في مجال التشغيل، قد لعب دورا فتاكا أيضا في كبح طموحات الذكور، الذين بدأوا يدركون شيئا فشيئا أن الدراسة، لن تجدي نفعا في زمن تم فيها احتكار المناصب للعنصر النسوي، وأن جل ما بات يحلم به الرجل أو الشاب هو الحرقة إلى ما وراء البحر، لعله يجد هنالك فرصته الضائعة في بلده.

ويكفي لفهم هذه الحالة الغريبة التي تزداد قسوة للاسف، الضجة التي أعقبت حملة (مكان المرأة ليس في المطبخ)، فقد تبين أن رؤى جديدة انتشرت بفعل سطوة العنصر النسوي على الحياة العامة، ومنها أن مكان المرأة التقليدي كما نعرفه لم يعد المطبخ، وبعبارة أخرى، لم يعد مكان المرأة البيت، وإنما مكانها المصنع والمعمل والمدرسة والجامعة والوزارة وغيرها، ليس جنيا إلى جنب مع أخيها الرجل، وإنما مكانها هنالك لوحدها، ما يستدعي سؤالا مضحكا : من تراه سيسر أمور المطبخ بعد الآن يا ترى؟.

ولأن المعادلات انقلبت، فإني كامرأة أعبر عن انزعاجي وتخوفي، من أن يكون مكان الرجل الطبيعي غدا هو المطبخ، وان يكون عليه أن يتحمل مسؤولية الطبيخ والغسيل وتربية الأولاد وشراء (ليكوش) والرضاعة الاصطناعية للأطفال.. ما قد يستدعي الوقوف إلى جانب الرجل المغبون، والمطالبة بحقوقه المهضومة.

أعلم أن ما أقوله يحمل في طياته الكثير من السخرية، لكن وكما أننا كنا ضد سطوة المجتمع الذكوري في الماضي، يكون علينا أن لا نقبل بسطوة المجتمع الأنثوي حاليا، أو تكون بلادنا (بلاد النسا)، لأن ذلك أيضا ضد منطق التوازن والعدل، ثم إن فقدان الرجولة إلى هذا الحد، إلى حد الندرة، ستكون عواقبه مدمرة على تماسك المجتمع وعلى منسوب النخوة فيه، وتلك حكاية مؤلمة أخرى، تستدعي مقالا منفصلا.

مقالات ذات صلة