الرأي

بناء “السلطة التأسيسية” لمكافحة شغب الحكام

حبيب راشدين
  • 1216
  • 5
ح.م

من الشيلي غربا، وحتى الصين شرقا، تشهد شوارع المعمورة حراكا شعبيا متناميا، لم يعُد حكرا على الدول النامية، ولا على النظم المستبدّة، وقد احتفلت “السترات الصفراء” في فرنسا منذ يومين بذكرى مرور سنة على انطلاق حراكهم، فيما توسعت رقعة الاحتجاجات في قلب الشرق الأوسط، مع دخول إيران على الخط، بعد لبنان والعراق، ولم تنطفئ شعلة الحَراك في الجزائر حتى بعد انطلاق الحملة الرئاسية، فيما قد يعود السودانيون قريبا إلى الشارع شهورا قليلة بعد بداية تنفيذ المرحلة الانتقالية التي سُوِّقت كنموذج لفك الاشتباك بين السلطة والشارع.

ثمة بلا شك قواسم مشتركة في حراك شعوب متنوعة، بتاريخ سياسي واجتماعي مختلف، يأتي على رأسها تأزُّم الأوضاع المعيشية، وتراجع منسوب خدمات الدولة، وفشل الحكومات في استيعاب جيل جديد من الشباب معولم، متصل، فاقد للأمل وللثقة في النخب الحاكمة، عابر للإيديولوجيات، كافر بالأحزاب وبالمسارات الانتخابية، التي يرى فيها محض أداة لإعادة تدوير نفس النُّخب والعائلات السياسية في المتشابه من الديمقراطيات.

غير أن أخطر ما يهدد استقرار الدول اليوم، ليس هذا الحراك الشعبي الذي كان له أكثر من نظير في التاريخ الحديث والقديم، بل أكثر ما يهدد استقرار الدول اليوم هو شغبُ الحكام، واستهتارُ النخب بمصير من يلقي بهم قطار عولمة الأسواق والثقافات والتواصل إلى قارعة الطريق، وامتناع هذه النخب عن مراجعة الصيغ المتداولة في إدارة الشأن العام، بأنظمة حكم ترفض بالمطلق الاحتكام إلى سلطة الشعب التي اتخِذت كذبا وزورا عنوانا للدولة المدنية الحديثة.

عندما استجارت مؤسسة الجيش بالمادتين السابعة والثامنة لإقناع الحَراك بأفضلية الانتقال الدستوري للخروج من الأزمة، كنت أتوقع أن تلتقط نخبُ الحراك هذا العرض لتبني عليه، بإعادة تفكيك منطوق حكم المادة السابعة، التي تدعي أن الشعب هو صاحب “السلطة التأسيسية” برفع شعار المطالبة بتأسيس فعلي لسلطة قائمة بذاتها اسمها “السلطة التأسيسية” إلى جانب السلط التقليدية الثلاث: التنفيذية، التشريعية، القضائية، تعمل كحارس بوابة لأحكام الدستور، وتلجأ إليها بقية السلط لفك الاشتباك بينها وبين المحكومين.

ما لم يستوعبه الشارع عندنا وعند أغلب شعوب العالم المستاءة الغاضبة من حكوماتها، أن الدولة المدنية الحديثة، بما في ذلك ما هو قائم في أعرق الديمقراطيات، هي كيانٌ معوق قابل لتزوير إرادة الناخب فيه حتى من غير حاجة إلى تزوير المسارات الانتخابية، ما دامت دساتيرها تمنع قيام سلطة تأسيسية مستقلة عن السلط التمثلية، وتكون حكما فوق السلطات الثلاث، تُخضعها لرقابة وتقويم دائمين، وتعفي الشعوب من اللجوء إلى الشارع لتصحيح المسارات وتقويم الحكام بكلف باهظة.

في الحالة الجزائرية، لن يفيدنا كثيرا أن يكون الاستحقاق الرئاسي القادم منفتحا على المعارضة، أو يُنفذ بوجوه من النظام السابق، ولا طائل ترجى من تأمين المسارات الانتخابية، ما دامت هي مزوَّرة من الأساس، حتى لو اجتمع الجن والإنس وكان بعضُهم لبعض ظهيرا لتأمين صناديقها من العبث، لأنها مزوَّرة بنص الدستور، الذي يُنهي سلطة الناخب بعد الانتهاء من تحرير محاضر الفرز، ليبدأ فسخ العقد بين الناخب والمرشح الفائز، الذي يتحرر وقتها من إصر الالتزام بما وعد به المغفلين من الكتلة الناخبة.

ويبقى المطلب الوحيد المنتِج لقيام مسار ديمقراطي حقيقي، وبناء دولة مدنية حديثة محصّنة من سطو العسكر ومن عبث الإنكشارية في الحكومات المدنية، هو التأسيس لسلطة تأسيسية دائمة، قائمة إلى جانب السلطات الثلاث، تمنعها من الاستبداد بالسلطة وعبرها بالثروة، وتحصِّنها من شغب النخب الحاكمة الذي بات المصدر الأول لإشعال الفتن، وتحريك الشعوب نحو الشغب والفوضى العادمة للحلول، توكل لها سلطة حماية الدستور من عبث الرؤساء، والحكومات، والبرلمانات، التي لا ترقب لصاحب السلطة التأسيسية إِلاّ ولا ذمة، بعد أن يمنحها التفويض في هذه الديمقراطيات التمثلية، واسع النظر والتصرف الحر في ما تمنحه الوكالة المطلقة من استبداد مرتقب للوكيل في ما يأتمنه عليه الموكل من صلاحيات.

مقالات ذات صلة