بين الفتى العازف عَلاَّ و الفتاة وردة !
ذات عام من سنوات الثورة، اكتشف مصطفى كاتب الفتاة وردة، كان ذلك في باريس، و بحسه الإنساني النادر و ذوقه العالي و نبوءته الفنية وضعها على طريق الخلود، ثم تقاطعت المصائر و الحيوات، فأصبحت الفتاة وردة أميرة، لمدة نصف قرن، على قلوب الملايين من المحيط إلى الخليج و من الجنوب إلى الشمال .
و إذا كانت وردة قد تفتحت على الرغم من كل الأشواك، إذ لا توجد حياة ناجحة دون أشواك، بقدر حجم النجاح يكون حجم الشوك و أكثر، تساءلت و أنا أقف على نعشها أقرأ فاتحة الكتاب الكريم على روحها الطاهرة: يا رب كم هو عدد المواهب، في بلادي، التي تشبه وردة في إصرارها و عنفوانها و إبداعيتها و لكنها تذبل قبل أن ترفع رأسها و قبل أن ترسل أريجها العطر في دنيا الفن و الإبداع؟
وفاة الفنانة المبدعة وردة التي استطاعت أن تحقق ما لم يحققه وزراء الثقافة جميعهم في الجزائر منذ خمسين سنة، و هو أنها بصوتها المرمري و شخصيتها الكاريزمية و نصف اسمها الذي يحمل اسم الجزائر فيه: “وردة الجزائرية”، تمكنت أن تضع الجزائر ثقافيا و فنيا و إعلاميا على خارطة المعرفة و الذوق العربيين. كانت كلما غنت إلا و ذكرت العالم العربي بوجود الجزائر، كان صوتها السفير الأكبر الذي لا يطلب اعتمادا من رئيس أو ملك، صوت يطلب اعتماده من الشعب العاشق.
كلما ابتعدت الجزائر عن العالم العربي ثقافيا و فنيا و إعلاميا كانت وردة الجزائرية دائما في المكان و الزمن المناسبين لتعيد العالم العربي إلينا و تعيدنا إلى العالم العربي شعوبا و ليس أنظمة، تذكرنا بالعالم العربي ثقافيا و تذكر هذا العالم بأننا موجودون من خلال صوتها.
كانت الفتاة وردة أو وردة الجزائرية أو أميرة الطرب العربي، مثلها في ذلك مثل محمد عبد الوهاب و أم كلثوم و فيروز و غيرهم تجمع الشعوب العربية بعيدا عن الحدود و قريبا من القلوب. لقد استطاعت وردة أن ترتفع عن كل المواسم السياسية المتغيرة و أمزجة الرؤساء و الملوك و السلاطين العرب لتجعل من هذا الشعب عربه و بربره و أكراده، مسلميه و مسيحييه و زنديقيه يستمعون إلى صوتها دون حد أو حدود، يستمعون إلى أغانيها بشغف دون السؤال عن جنسيتها، كانت أكبر من جميع الجنسيات جميعها و في الوقت نفسه لم تكن لتتنازل عن جنسيتها الجزائرية أبدا.
كان صوتها و هي التي ولدت في المدينة التي بها ولد القديس أوغسطين، سوق أهراس أو أغُّاسْ، جامعا بين ممانعة الالتزام و إمتاع الطرب، كانت الفنانة التي تقاطعت فيها رومانسية أمٍّ لبنانية تنزل من نصوص جبران خليل جبران و ميخائيل نعيمة و سعيد عقل و أب ينزل من لعلعة الثورة و أحراش جبال الأوراس و فتنة آريس العظيم.
و أنا أقف في حضرة جثمانها لأقرأ على روحها فاتحة الكتاب الكريم، ذكرتني في موتها الكبير بموت آخر، موت له شكل آخر، موت الاقصاء و التهميش و اللااعتراف، موت يصيب الفنانين في بلادنا فيذهب بأرواحهم على الفور، يذهب بهم و هم أحياء، يموتون قبل موتهم الطبيعي، ذكرني موتها بموت الموسيقار عازف العود الاستثنائي علاّ، و من لا يعرف علاّ لا يعرف جنون العزف و لا عبقرية الأصابع الجزائرية. موت الموسيقارعلاّ موت من نوع آخر.
و علاّ المنسي هذا، المُهجَّر من بلده، المدفون فيها حيا، اسمه الكامل عبد الله عبد العزيز من مواليد 15 جوان 1946 ببشار، تاريخ قد لا يكون دقيقا، لكن الطفل عبد الله أو علاّ (تصغير لعبد الله) هو حقيقة، مؤكدة في العُودِ و في العبقرية. وُلِدَ لأب عامل منجمي من مدينة بشار صرف عمره في خنادق مناجم القنادسة السحيقة و المرعبة و لأم اسمها زهرة تنزل من بلاد الأميرة تينهينان و قد خلدها في واحدة من تسجيلاته الموسيقية المبدعة التي سماها “زهرة“.
لكم هي سخية هذه المدينة، أعني مدينة بشار، أو كولومب بشار كما كانت تسمى في الزمن الكولونيالي، مدينة وَلاّدة عبقريات و استثناءات، فيها وُلدتْ أولُ رواية جزائرية مكتوبة باللغة الفرنسية “مريم بين النخيل” لمحمد ولد الشيخ كان ذلك العام 1936 و هي أيضا مدينة الروائي ياسمينا خضرا (محمد مول السهول) و الروائية مليكة مقدم و الحاج لكبير و فرقة الفردة و عائشة لبقع و ديوان بشار ….
واقفا أمام جثمان وردة الجزائرية و هي ممددة في موتها الكبير، أقرأ فاتحة الكتاب، قلت في نفسي: لو ولد علاّ ألمانيا لكان جالسا في صف بيتهوفن، لو ولد علاّ نمساويا لكان إلى جانب موزار، لو ولد علاّ روسيا لكان إلى جانب تشايكوفسكي، لو ولد مصريا لكان إلى جانب محمد عبد الوهاب …. و لكن علاّ ولد بشاريا فكان إلى جانب النسيان و التمويت غير المباشر.
في هذه الأيام حيث تستعد بلادنا للاحتفال بخمسينية استقلال الجزائر، تفرش الزربية الحمراء للبناني عبد الحليم كركللا و يسدل ستار النسيان على علاّ، و في الوقت الذي يعمل العراقي نصير شمة على افتتاح مدرسة لتدريس العود يسقط علاّ من ذاكرتنا و هو أستاذ الجميع، أمَا قال عنه عازف العود العالمي العراقي منير بشير ذات يوم : ” إن لديكم في الجزائر عازف عود استثنائي، و عزفه يتجاوز جميع الطبوع المعروفة في الموسيقى العربية” !! هي المفارقة العجيبة. و علاّ هو مَنْ أدهش المخرج السينمائي الإيطالي برناردو برتولوشي بموسيقاه، إذ لم تكن تفارق أذنيه موسيقى علاّ البشاري و هو يصور فيلمه الشهير “شاي في الصحراء“ هي المفارقة الغريبة.
في الوقت الذي تتسابق على علاّ شركات الحفلات الموسيقية العالمية من باريس إلى ريو دي جانيرو إلى طوكيو إلى واشنطن و تونس و الرباط يُضرَبُ على اسمه بالشمع الأحمر في بلده التي خلدها في موسيقاه، فمن عرق و أتعاب و مِحَن عمال مناجم القنادسة بضواحي بشار أبدع “طبع الفوندو” و هي موسيقى استوحاها من يوميات عمال المناجم و التي من خلالها كرمهم، هم الذين يخرجون الخبر الأبيض من الفحم الأسود، يخرجون الحلو من ملح العرق، يخرجون الفرح من صخر الألم.
واقفا أقرأ فاتحة الكتاب على روح السيدة وردة الجزائرية قلت في نفسي رافعا دعوة إلى ربي أن يعيد علاّ إلى بلده كي يرفع من مستوى الذوق و يُعلي من موسيقى هذا البلد درجات، و ألا يموت الفتى علاّ قبل يوم الموت.