الرأي

بين حبّ الدولة وكُرْه بوحجة!

ما يجري منذ 20 يومًا تحت قبّة زيغود يوسف، بحجة رفض النواب بقاء السعيد بوحجة على رأس الغرفة السفلى للبرلمان، ستكون آثاره وخيمة على تكريس ثقافة القانون، ومن ثمّ على هيبة الدولة ذاتها ومؤسساتها وسلطاتها.
ذلك أنّ الأزمة التي يتخبّط فيها البرلمان، منذ إعلان الرغبة في الإطاحة بالرجل الثالث في الدولة، لم تعُد محكومة فقط بقواعد اللعبة السياسيّة التي تخضع لأدوات الضغط والمناورة والتجييش، بل وقعت في عمق الانسداد القانوني، وفي الهرم منه، الدستور، كأسمى وثيقة لتنظيم الدولة والمجتمع.
بغضّ النظر عن خلفيات جميع الأطراف ومواقفها، وبعيدًا عن قوى ومراكز الإسناد لكلّ فريق، فإنّ القانون يبقى هو السلطان والسيّد للفصل والحكم بين المتنازعين في كلّ الأحوال، مهما كانت نتائج الصراع السياسي ومآلاته، وإلاّ تحوّل المشهد إلى حلبة ثيران، وغابة يأكل القويّ فيها الضعيف.
لا شكّ في أن تحالف الأغلبية النيابيّة المطلقة لإزاحة السعيد بوحجّة، يجعل الأخير في موقع ضعف من الناحية السياسيّة، وقد يجد الكثير في هذا الوضع مبرّرا كافيًا ليعلن الرجل تنحّيه طواعية، وفق الأعراف الأخلاقيّة، لكنْ، على الجانب الآخر، يُشهر الرجل ورقة الشرعيّة، معتبرًا صموده في وجه المناوئين دفاعا عن سيادة القانون، قبل أن يكون حفاظا على المنصب ومنافعه الماديّة، دون أن يجادله معترضٌ في وجاهة هذا الكلام.
مشكلة البلدان السائرة في طريق الديمقراطية، هي حالة التنازع الداخلي لدى نُخبها، أو صانعة القرار منها على الأقلّ، بين التوجه نحو الشرعيّة الشعبية الكاملة، باعتبارها الخيار الوحيد في العصر الحديث لتنظيم التداول على السلطة بشكل سلمي وسلس، وبين السعيِ الحثيث للتمترس خلف القوانين المنسوجة على المقاس، بهدف الحصانة من التقلبّات السياسيّة، لكنّ تلك القيود الواقية نفسها هي التي تورّطها عند تأزّم الخلاف.
هذه الإرادة المشُوبة بالرّيب في الانتقال الديمقراطي، هي التي وضعت اليوم أطراف الخصومة في قضيّة بوحجة أمام مأزق دستوري وأخلاقي، إذ دخلت نفق المعركة البرلمانيّة دون تفكير في أفق للخروج منها بسلام.
لقد منع المشرّع الدستوري، عن عمد وسبق وإصرار، إقالة رئيس الغرفة السفلى للبرلمان، رافضًا إدراجها ضمن حالات الشغور التي تتقرّر بالاستقالة أو الوفاة أو العجز أو التنافي بين الوظائف، ليتجنّب بذلك مناورات المعارضة وبيْع الولاءات، بيْد أنّ السحر ينقلب على الساحر، حينما يتشبّث الأذكياءُ بحيلهم.
سيقول البعض: هذا التشخيص ندرك حقيقته، فما هو الحلّ؟ ونحن بدوْرنا نوضّح أنّ القضية لا تعنينا إلا في بُعدها القانوني والدستوري، لنؤكّد أن تصريحات بعض السياسيّين، حول ضرورة الامتثال لمقتضيات شرعية الأمر الواقع والرضوخ لمنطق السلاسل والأقفال، يضرب فكرة الدولة في الصميم، ويكسر مبدأ الفصل بين السلطات، ركيزة دولة القانون العصريّة، فضلاً عن الإساءة إلى جهود الجزائر وإنجازاتها في سبيل بناء دولة المؤسسات والقضاء والقانون، انتصارًا للأشخاص والأهواء والمصالح السياسويّة.
إذن، المخرج السليم يكمن في الحلّ الذي لا يتجاوز قوانين الجمهوريّة، ولا ينتهك حرمتها إطلاقًا، مهما كانت تكلفته السياسيّة باهظة، لأنّ ترسيخ دعائم الدولة والقانون، ولو في طقوسها الشكليّة والإجرائية، مقدّم حتمًا على كسب المعارك الآنيّة، وفي هذه الحالة، إمّا أن يقتنع بوحجة بالمغادرة، أو يتدخل رئيس الجمهورية باستعمال صلاحياته في حلّ الغرفة السفلى، وكلّ تصرف سياسي آخر سيكون مساسًا صارخًا بالدستور.

مقالات ذات صلة