الرأي

بَضِيعة

هذه الكلمة “بضيعة” ليست اسم إنسان، و لا نعرف إن كانت اسم جانّ، و هي ـ غالبا ـ ليست اسم مكان و ليست اسم زمان. و هي لغرابتها تصلح لتكون من أسئلة مسابقات رمضان، أو أحجية تسلّي بها العجائز الصبيان لمساعدتهم على النوم.

لقد وردت هذه الكلمة في صيغة المذكر “بضيع”، و هي ـ كما جاء في قاموس “تاج العروس” للإمام محمد مرتضى الزبيدي ـ اسم جبل في نجد، و اسم مرسى بالقرب من جدة، أو البحر نفسه، أو الماء النمير، أو الشريك.

لفت انتباهي لهذه الكلمة “بضيعة” استعمالها من طرف امرأة شاركت في ثلاثة حوارات (واحد في القناة الوطنية الثالثة، واثنان في قناة الشروق) عن الإضراب الشرعي و القانوني للأساتذة و المعلمين من أجل كرامتهم و حقوقهم.

لقد قدمت هذه المرأة نفسها للمشاهدين بأنها نائبة رئيس الفدرالية الوطنية لأولياء التلاميذ، و كانت تدخلاتها ـ لسوئها و غوغائيتها ـ من المواطن التي يُستَحَبّ فيها الصمم، ثم تبيّن في تصريح لمسؤول في جمعيات أولياء التلاميذ أن هذه المرأة لا صلة لها بالفدرالية الوطنية لأولياء التلاميذ، و معنى ذلك أنها انتحلت تلك الصفة، و هو ما يعاقب عليه القانون، لو كان عندنا قانون. و قد أضافت إلى ذلك الانتحال “جرما أخلاقيا” عندما وصفت المعلمين و الأساتذة بـ”أنهم يَمْشِيوْ على كْروشهم”، وهو ما اعتذر عنه ذلك المسؤول غير المزوّر.

و أود أن أشير إلى أن في بعض مناطقنا طرفة مفادها أن أناسا قالوا لثعبان: “ما تحشمش تمشي على كرشك”، فجادل عن نفسه بقوله: “كلنا نمشيو على كروشنا، و الفرق بيني و بينكم هو أنني صريح و أنتم منافقون”.

و ملاحظة أخرى أود الإشارة إليها، و هي أن الإسلام رفع ـ على لسان معلمنا الأول صلى الله عليه و سلم ـ قيمة السعي على الوالدين و العيال و النفس إلى مرتبة الجهاد في سبيل الله، فقد ورد في الحديث الشريف أن شابا جلدا مر على رسول الله صلى عليه و سلم و هو جالس في جماعة من الصحابة رضي الله عنهم فقال قائل منهم: لو كان هذا ـ أي الشاب ـ في سبيل الله، فصحح لهم معلمنا الأول عليه الصلاة و السلام سوء فهمهم قائلا: إن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، و إن كان خرج يسعى على ولده فهو في سبيل الله، و إن كان خرج يسعى على نفسه يعفها عن السؤال فهو في سبيل الله. و لم يعتبر رسول الله عليه الصلاة والسلام ذلك الشاب “يمشي على كرشو”، و كأن تلك المرأة تمشي على شيء آخر.

و عَوْدا إلى كلمة “بضيعة” التي رددتها تلك المرأة عدة مرات، مما يعني أنها ليست زلة لسان، التي ما فهمتها إلا بعد جهد جهيد، و كانت تعني بها “بضاعة”، حيث قالت عن المعلمين و الأساتذة المضربين من أجل كرامتهم و حقوقهم  إنهم اتخذوا التلاميذ “بضيعة” أي بضاعة، و هذه إساءة ثالثة، حيث اعتبرت أبناءنا ـ ذكرانا و إناثا ـ سلعة، في حين أن الإدارة هي التي اعتبرت هؤلاء الأساتذة و المعلمين “شيئا”، فلم تتحاور مع ممثليهم الشرعيين، و راحت تتهمهم بـأنهم يعملون لجهة سياسية، غاضة الطرْف عن النقابة المركزية التي “يبرّح” كبيرها في كل تجمع بأن “نقابته” مع العهدة الرابعة، و ما هي إلا “عقدة”، نسأل الله عز و جل السلامة من نتائجها.

يبدو أننا بصدد نشأة “مدرسة لغوية” في الجزائر، تتميز بالابتكار و الطرافة، و ستستفيد اللغة العربية كثيرا من “الإبداعات”، و قد وضع حجر الأساس في هذه المدرسة المرحوم سليمان عميرات بكلمة “التحلف” التي يعني بها التحالف، و قد أكدها سي زرهوني الذي أوردها في صيغة الجمع “التحلفات”، و جاء الأخ بوتفليقة بكلمة “الترهاء” التي فهمنا بعد جهد جهيد أنه يقصد “النزهاء”، و عزز الأخ سلال هذه الجهود بكلماته و أهمهن كلمة “فقاقير”، وها هي تلك المرأة “تتحفنا” بكلمة “بضيعة”.

إنني أنوي أن أبعث بهذه “الإبداعات” إلى مجامع اللغة العربية لأؤكد لأعضائها “أن بني عمك فيهم رماح”، و أستثني من هذه المراسلة المجمع الجزائري الذي جدد بـ”نومه” قصة أصحاب الكهف.

أعتذر لقرائي الكرام على هذا الأسلوب الهزلي، و ذلك تماشيا مني مع هذه المسرحية الهزلية التي تجري فصولها في الجزائر الغالية التي هزلت حتى سامها كي مفلس.

مقالات ذات صلة