-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

النهضة تبدأ من هنا

النهضة تبدأ من هنا

أمضيت شرخا من حياتي العلمية والفكرية التي تجاوزت نصف قرن من القراءة والبحث والمطالعة والتفكير والتحليل.. في تتبع مشاريع النهضة التي اضطلعت بها الدولة الجزائرية منذ الاستقلال إلى اليوم، وقستها جميعا على مشاريع ونظريات النهضة المشهورة بين أهل العلم والاختصاص، منطلِقا من نظرية العلامة عبد الرحمن بن خلدون (ت 808هـ 1406م) التي تحدد عوامل وشروط النهضة في أربع مقومات (عصبية الدولة، وضع المرأة، العدل، انتشار الظلم والترف)، أو نظرية إمام الحرمين أبو المعالي الجويني 419-478هـ في كتابه القيم (الغياثي-غياث الأمم في التياث الظلم) حول إمامة الغلبة أو العصبة أو الوثبة، أو الماوردي 364-450 هـ في الأحكام السلطانية، أو ابن تيمية 728هـ في السياسة الشرعية، أو أبو حامد الغزالي 405-505هـ في (التبر المسبوك في أخبار الملوك)، أو نظرية مالك بن نبي 1905-1973م في الإقلاع الحضاري (مرحلة الغريزة، الروح، العقل)، أو علي محمد الصلابي 1963- حي 2021م في موسوعته التاريخية..

وجدتُها كلها تنطلق من الفلسفة المادية الطبيعية أو المادية الوضعية أو المادية الإلحادية الشمولية أو المادية العلمانية البحتة، متناسية أو متجاهلة عن عمد منطلق النهضة الحقيقي وهو الروح والوجدان والقلب.. التي يجب أن يتبعها العقل والتفكير لإنقاذ الروح من الفوضى والانفلات، المُفضي بها إلى العودة إلى مرحلة الغريزة والتخلف كما يذهب إلى ذلك مالك بن نبي، كما هو حالنا في الجزائر منذ أكثر من ستة عقود.

وبمجرد أن يتغير الطاقم الوزاري حتى ترى آثار التكوين المعرفي والعلمي والإيديولوجي النمطي والنسقي القائم منذ ستة عقود يبدو جليا في عملية طرح المبادرات والدعاية للمشاريع والتعريف بمخططات النهوض والإقلاع الحضاري.. الذي ظل يراوح مكانه دون أن يؤتي ثماره المرجوَّة مع اعتبار وتقدير حسن النية والصدق والإخلاص في حب الجزائر والرغبة الأكيدة للنهضة بها..

وبدا لنا هذا في مشروع إرسال البعثات العلمية للنابغين الجزائريين إلى الخارج كي يتعلموا ويزدادوا خبرة وليعودوا لخدمة وطنهم، وقد أثبتت الأرقام والإحصاءات المهولة أن غالبية الذين أرسلتهم الجزائر من نوابغها للدراسة في الخارج لم يعودوا وكوّنوا رأسمالا علميا لتلك البلاد التي ابتُعثوا للدراسة فيها، وعلى الرغم من أن تكوينهم قد تم بأموال الشعب الجزائري، وأنهم أمضوا عقودا ملزِمة بالعودة إلى الوطن حالما تخرجوا. فلماذا لم يعودوا للوطن الذي أنفق عليهم المال؟ أتدرون السبب؟ إنه موت الروح، وغياب الضمير، وتلاشي الوطنية، وانتحار عاطفة النهضة بالوطن، وإعادة شيء مما أنفقه عليهم.. هذا بسبب موت الروح والوجدان.. وتراجع القيم الدينية والروحية والعاطفية تجاه الوطن..

أتدرون لماذا خسرنا معركة التنمية والخطط والمشاريع الثلاثية والرباعية والخماسية الاقتصادية؟ إنه بسبب توليتها لخبراء ومنفذين مات ضميرُهم وفنيَ وقودُهم الروحي، وتعطلت أجهزتهم الوجدانية والشعورية والدينية.. فشلنا في المعلّم الذي يتخاذل في المدرسة وينشط في دكاكين الدروس الخصوصية التي يمتص فيها دماء وعرق الفقراء.. في الأستاذ الجامعي العاطل عن القراءة والبحث والاجتهاد والتجديد والتدريس والالتزام برسالته ووظيفته الجامعية المقدسة.. هذا الأستاذ الخامل الذي لا يقدِّم من الخدمة كفاء المنح التي يتقاضاها، فالجميع يتقاضى منحة الإشراف مثلا وغيرها من المنح التي تعادل أجرا قاعديا لموظف، ولا يشرف أصلا، والجميع يغشّ في المناقشات والإشراف ولا يقرأ الرسائل التي يُشرف عليها أو يناقشها، ولكم أشفق على أمثال هؤلاء الغشاشين خلال المناقشات التي ينكشف فيها عوارُهم.. بل ثمة من المشرفين من يرتقي المنابر ويخطب ويفتي ويحلل ويحرّم ولا يلتقي بالطلبة الذين يشرف عليهم ولا يحمل هاتفه ليردَّ عليهم، ولا قانون يعاقب هنا أو يضع حدا للغائبين حيث مدرجات الجامعات خاوية على عروشها، ولو حاول بعض المصلحين من العمداء تطبيق القانون يجتمعون عليه كالدبابير في مكاتب نقابات الإثم والفجور والفساد ويلسعونه وينغّصون عيشه.. أتدرون لماذا فشلنا في هذا الأستاذ الغشاش؟ طبعا لأن مشاريعنا لا تركز على الروح والوجدان والقلب.. بل لم نعد نُركز حتى على تطبيق القانون.. فالجميع متساوون في الجامعة: العامل والغشاش والفاشل والمجد..

أتدرون لماذا فشلنا في الطبيب والجراح والممرض والعون المخبري والصيدلي وعامل النظافة والمراقِب والمقتصد والمدير والمسير والطباخ والسائق في المستشفيات؟ لأننا حرصنا على الكم وأهملنا الكيف، لأننا نسينا أن الطبيب والممرض والجراح يؤدي وظيفة الرسول والنبي.. ولأن رسالته الروحية والنفسية والوجدانية والأخلاقية نصفُ العلاج إن لم تكن أكثر من ثلثي العلاج.. لماذا فشلنا إذن واضطرنا إلى سنِّ قانون تجريم المحتجّ على سلوكات خسيسة الكل يعرفها في مستشفياتنا ومراكز العلاج عندنا؟ حيث الروح والوجدان والإنسانية هي الكيف.. وحيث تموت وتغيب هذه القيم الروحية في مؤسساتنا للأسف..

أتدرون لماذا فشلنا في صناعة مسؤول أو منتخَب محترم الذين تنقل الصحف والقنوات الفضائية وغيرُها فضائحهم كل يوم؟ مسؤول يسرق ويختلس ويفسد ويدمر ويعربد ويعيث في الأرض فسادا.. طبعا لأننا أهملنا الروح وتنميتها في هذا المسؤول عندما كان صبيا في المدرسة فالجامعة فمؤسسة العمل.. أتدرون لماذا فشلنا في التنمية الاقتصادية وحطمنا وبددنا ثرواتنا البترولية والمعدنية والطبيعية والغابية والمائية والمالية..؟ لأننا طبعا فشلنا في إعداد مدير محترم ومؤمن ومخلص لشركته الوطنية.. وفشلنا في تكوين عامل مخلص وحارس يقظ لا يسرق شركته مع اللصوص في الليل والنهار..

نحن مازلنا نسير مع الفشل وللفشل مادمنا لم نركز على الجانب الروحي ونبنيه حق البناء منذ الطفولة والصبا والشباب والرجولة.. فشلنا في تكوين التاجر والجزار والخضار والبائع والمهني والعامل والبنَّاء والصيدلي والكاتب والصحفي والإعلامي والداعية والإمام الصدوق الذي يكون يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.. لماذا فشلنا إذن؟ طبعا فشلنا فشلا ذريعا لأننا لم نولِ الجانب الروحي والديني حقه وكفايته التي هي قوام وكمال إنسانية الإنسان، وقديما قالت الحكمة (فأنت بالروح لا بالجسم إنسان)..

ولعلني أختم بمشروع فلسفة الثقافة والأدب والإعلام والتدريس وحتى الخطاب الديني الذي سينهض بالجزائر وهما وتخرّصا وخطأ، أو بمشروع عباقرة الرياضيات الذي اعتقده خطأ وزيرَا التربية والتعليم العالي، وهما حسب علمي ومعرفتي يشكلان استنساخا مؤسفا ومجا لمشاريع الإفلاس القديمة.. إذ يتأسس الأول على هوس الفلاسفة والمتفلسفين الذين انتحروا أو ماتوا ميتة مخزية لأنهم عجزوا عن معرفة المطلق الحقيقي بالفلسفة، حتى أفلاطون المشرك بفلسفته (القديمان: العالم، الله).. بل عجزوا عما هو أقل من المطلق لمن قرأ وعرف.. فحيّا على جنون الفلسفة ونهضة الجزائر الجديدة بفلسفة نيتشة المجنون وأمثاله..

فيما يتأسس المشروع الثاني على الأرقام والحسابات والخيال وفلسفة التجميع، وهو انطلاقٌ من فلسفة اليونان المادية البحتة.. الذين اختلفوا في الماورائيات ولكنهم اتفقوا في الطبيعيات والحسابيات وتناجزوا الحرب في الأخلاقيات، التي جسَّدتها جمهورية أفلاطون العجيبة الغريبة القذرة لمن امتلك روحا ودينا وطهارة من كل دنس الوثنيات التي باتت تدنِّس كل جميل في الحياة.. فحيَّا على جنون المادية الطبيعية والمادية العددية، وحيَّا على نهضة الأرقام بلا روح.. وحيَّا على طيور الرياضيات المهاجرة أو التي ستهاجر حالما تملّ اللعب بالأرقام..

قرائي: إنها مأساة المشاريع النهضوية المادية العلمانية أو الشمولية الإلحادية المفلسة في الجزائر الجديدة.. ولها فليعش جنونُ الفلسفة، ولنعش لتسالي الأرقام.. وعليك السلام يا روح ويا عِقال الجسد.. وإن غدا لناظره قريب، وسترون هل سنتقدّم خطوة بلا روح.. أللهم اشهد أني بلغت..

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • نحن هنا

    ومع كل الذي ذكرت فانك تجنبت الاساس إماغفلة أو رهبة فالسفينة بربناها لا بركابها والنهظة لاتتحقق الا بقيادة عالمة راشدة نابعة من شعبها متجاوبة تقبل النصيحة متبصرة واعية بالمسؤولية حريصة ومصممة على النهوض فالمفتاح في المتاح وهو كثير كفى جلدا للذات فاتوا البيوت من أبوابها واعتبروا ياأولي الابصار