-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

تحديد بدايات الأشهر القمرية بين الرؤية العينية والحسابات الفلكية  

جـمال فـهـيـس
  • 406
  • 0
تحديد بدايات الأشهر القمرية بين الرؤية العينية والحسابات الفلكية  

تعيش الأمة العربية والإسلامية في مثل هذه الأيام من كل عام، نوعا من الارتباك والحيرة يصل حد الاختلاف حول تحديد غرة شهر رمضان وشوال، إذ يبلغ الأمر في بعض الأحيان إلى أن يصل الفارق بين بداية نفس الشهر القمري إلى أربعة أيام كما حدث في أعوام مضت… هذا الارتباك لا نجده في التقويم الميلادي الشمسي، إذ نجد بدايات الأشهر مضبوطة ومحددة بدقة ضمن رزنامات سنوية وقرنية يضبط الناس وفقها مواعيدهم وأعمالهم وتنتظم بذلك حياتهم.

أما عندنا، فالمهزلة تكون للأسف عندما نعجز عن ضبط موعد مع شخص آخر اعتمادا على التقويم القمري، خاصة في الأشهر التي تحتاج إلى تأكيد بداية الشهر بالرؤية العينية.

ولكم أن تتصوروا كيف يمكن لشخصين أن يتفقا على موعد لقاء في يوم الخامس من رمضان مثلا في مكان محدد، وكل منهما بدأ شهر رمضان في بلاده في يوم مختلف؟! وهنا يطرح سؤال الإشكالية: هل العيب في التقويم القمري أم في مستعمليه؟

التقاويم وسائل لتوحيد وتنظيم حياة الأمم

التقاويم نوعان: شمسي أو قمري، فأما الشمسي فيتعلق بمدة دوران الأرض حول الشمس خلال مدة 365 يوما وربع يوم، وأما التقويم القمري فقد عرفه الناس منذ القدم لتعلقه بمدة دوران القمر حول الأرض خلال مدة 29.51 يوما، وسمِّي عند المسلمين “التقويم الهجري”، وشُرع في تطبيق هذا التقويم الهجري (القمري) منذ قرابة 15 قرنا في عهد الخليفة الراشـد “عمر بن الخطاب” رضي الله عنه، وهو يبتدئ بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أننا نجد أن أمتنا الإسلامية لم تتوحد بعد في استعماله رغم ارتباطه بأربعة أركان من الإسلام وهي الصلاة والزكاة والصيام والحج.

من جهة ثانية، نجد أن دول الغرب تمكنت من توحيد التقويم المعتمد لديها والمعروف بالتقويم الغريغوري (الشمسي)، إذ تحدّد بواسطته بدايات الأشهر وأيامها بدقة لسنوات بل قرون مسبقة. والأدهى من ذلك أنه في الوقت الذي أصبح العالم يشبه بالقرية الصغيرة بسبب الثورة التكنولوجية التي أصبحت تسوده في مجالات الاتصال والفضاء والصناعة والأنترنيت، وفي الوقت الذي تتوحَّد فيه أوروبا اقتصاديا وسياسيا، ويخطّط فيه غيرنا ويوحِّد جهوده وإمكاناته لغزو الكواكب البعيدة والفضاء، لا نستطيع –أو لا نريد- نحن أن نتوحد في مناسبة دينية أو تقويم، رغم أنه أنجزت عدة دراسات وتقاويم من طرف علماء عبر العالم كمقترحات لتوحيد التقويم القمري (calendrier) والأعياد.

غياب تقاويم مضبوطة.. مشاكل وفتن

إن عدم ضبط التقاويم والرزنامات السنوية تترتب عنه سلبيات كثيرة على الحياة الاجتماعية والاقتصادية وحتى الدينية، فمثلا في الجانب الاقتصادي، يكفي أن نرى ما يحدث بيوم أو يومين وأحيانا ثلاثة قبل ما يعرف بـ”ليلة الشك” وبالأحرى ليلة التحري، إذ نرى العمال يهجرون أماكن عملهم، خاصة إذا كانت بعيدة، ويقومون بما يعرف بـ”الجسر” وهذا لقضاء عطلة العيد مع أهلهم وذويهم لأنهم لا يدرون متى سيكون العيد، هل غدا أم بعد غد؟ المهم أن الجواب سيأتينا بعد ساعات في الليل عبر شاشة التلفاز في العالم العربي، بعد صياغة التقارير وقراءة الديباجة المعروفة التي في بعض الأحيان تكون بعيدة عن الواقع العلمي الذي يعتمد الحساب الفلكي.

ويحضرني هنا، ما وقع في عيد الفطر لعام 1420هجرية/ 2000م، إذ وصل الاختلاف بين الدول الإسلامية في الاحتفال بهذا العيد الذي يوافق غرة شوال، إلى أربعة أيام كاملة! فهل هذا التباين يعود إلى اختلاف المطالع الذي يتحجج به البعض؟.

إن ما حدث وسيحدث، هو نتيجة اعتماد بعض الدول للرؤية المحلية والعينية البحتة مثل سلطنة عُمان والمغرب، حتى لو كانت خاطئة أحيانا كأن يأتي أحد الشهود ويزعم أنه رأى الهلال، فيؤخذ بقوله –عن حسن نية طبعا- دون التحقق من ذلك، في حين أن الاقتران لم يحدث بعد.

وهناك دول أخرى تعتمد الحساب مطلقا مثل تركيا وليبيا ودول البلقان… بينما دول أخرى تعتمد الحساب المدعَّم بالرؤية العينية. ولو أن بعض العلماء يقولون إن الرؤية العينية ظنية، أي يمكن أن تصاب بالخطأ، في حين أن الحساب قطعيُّ الدلالة ودقيق، إذ أنه بلغ دقة كبيرة في حساب مواعيد الكسوفات والخسوفات، فكيف نعتمده ونصدقه في هذه الحسابات، ثم ننكره في تحديد بدايات الأشهر؟! كيف نعتمده في تحديد مواقيت الصلاة طيلة سنة كاملة، ثم نضعه جانبا في “ليلة الشك”؟!

إن بداية الأشهر القمرية ظاهرة فلكية بحتة وليست دينية، وهي تقدَّر بمدة دوران القمر حول الأرض خلال 29 يوما و12 سا و44 د. وبالتالي، فإن مدة الشهر القمري تكون إما 29 يوما أو 30 يوما. وهذه الحركة مضبوطة لقوله تعالى “الشمس والقمر بحسبان “الرحمن/3 ، وفي آية أخرى “هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدَّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب” يونس/5، كما أن الشهر القمري تتحدد به بعض العبادات عند المسلمين من صوم وحج وزكاة والعدة، ومناسبات كالمولد النبوي الشريف ومحرّم فضلا أن علم الفلك تتحدد به مواقيت الصلاة واتجاه القبلة… لهذا فإن الأخذ بالحساب الفلكي سيحلّ دون شك إشكالية الرؤية الخاطئة، ولنا في التاريخ الإسلامي عدة مواقف توضِّح إمكانية الخطأ في الرؤية، ومنها تلك الحادثة التي وقعت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ رأى أحدُ الصحابة الهلال الجديد فنظر سيدنا عمر إلى وجهه ونزع عن إحدى عينيه شعرة كانت عالقة بها، وطلب منه إعادة النظر إلى الهلال فنفى الصحابي رؤية الهلال في المرة الثانية!

وفي عصرنا الحالي كثُـر التلوث الضوئي والجوي من دخان المصانع والسيارات، ويمكن أن يتهيأ لراصد ما رؤية الهلال في حين أنه طائرة أو قمر اصطناعي أو سحابة رفيعة، أو أحيانا هلال أحد الكواكب القريبة من الشمس كالزهرة والتي تأخذ أحيانا شكل الهلال. أضف إلى هذا أن العامل النفسي له تأثير كبير في رؤية الهلال وهو ما توصل إليه العالمان الأمريكيان “شيفر” و”دوجت” سنة 1992 بعد أرصاد طويلة وبيَّنا أن هذا الاحتمال ممكن وسمياه “الخطأ الموجب” وتصل نسبته إلى 15 % أي أنه من بين 13 راصدا هناك اثنان سيصرِّحان برؤية هلال غير مرئي! لذا توجَّب الفحص الدقيق والعلمي لصحة الشهادة التي يتقدم بها بعض الناس ومدى مطابقتها للحساب الفلكي.

متى يمكننا رؤية الهلال؟

اهتمّ الفلكيون منذ القدم بدراسة الشروط اللازمة والكافية لرؤية الهلال الجديد لضبط بدايات الأشهر القمرية. ولضيق المجال فإننا لن نخوض في التفاصيل العلمية والفقهية، علما أنه عُقدت عدة مؤتمرات وملتقيات عالمية في العالمين العربي والإسلامي والعالم لضبط وتوحيد معايير تحديد أوائل الأشهر كان آخرها باسطنبول (تركيا) في شهرماي 2016. واقتُرحت رزنامات موحدة، إلا أن تطبيقها يبقى حبيس الأدراج رغم أنها موضوعية، فمنهم من اقترح تقسيم العالم إلى ثلاث مناطق رصد، ومنهم من اقترح اعتماد خط مكة– المدينة المنورة كخط مرجعي لبداية التقويم القمري ليكون خاصا بالمسلمين بدلا من خط غرينيتش… وهناك تقويمٌ آخر يعرف بإسم “أمّ القرى” خاص بالسعودية.. إلا أنه يمكننا تلخيص مجموعة شروط ومعايير فلكية متفق عليها لإمكانية رؤية الهلال، نلخصها فيما يلي:

  • شرط منطقي: أن يكون الاقتران الفلكي بين الشمس والقمر قد حدث فعلا، ويمكن أن يحدث ذلك ليلا أو نهارا في أي مكان من العالم، ويكفي أن يمرّ على الاقتران نحو 15 ساعة حتى يتشكَّل قوس الهلال بشكل كاف. لذلك لا جدوى من البحث عن هلال جديد قبل حدوث الاقتران، لأنه كمن يبحث عن الشمس في الليل.
  • شرط هندسي: أن يغرب القمر بعد غروب الشمس بفترة كافية، إذ يقلّ معها سطوع السماء في منطقة الغروب ويصبح من الممكن تمييز الهلال ويطلق عليه “زمن المكث”. وأصغر فاصل زمني سُجِّل بين غروب الشمس والقمر بالعين المجردة هو 22 دقيقة.

ج- شرط فيزيائي: أن لا تحول ظروفُ المكان من تضاريس وتلوث جوي وأحوال جوية دون رؤية الهلال. ويتحقق هذا الشرط، حسب الفلكيين، بأن لا يقلّ البُعد الزاوي بين الشمس والقمر عن السبع درجات قوسية وهو ما يسمح بتمييز نور الهلال خارج هالة ضوء الشمس. أضف إلى ذلك ألا تقلّ “زاوية ارتفاع” القمر عن الأفـق الغربي لحظة غروب الشمس عن خمس إلى ست درجات قوسية.

إذا تحققت هذه الشروط الثلاثة مجتمعة، فإنّها تسمح بالرؤية العينية للهلال في أي مكان من سطح الأرض.

يُذكر أنه منذ نحو 15سنة، وباعتماد التكنولوجيات الحديثة، طوِّرت كاميراتٌ رقمية حساسة جدا للضوء وصار بإمكاننا أن نصوّر قوس الهلال بعد نصف ساعة فقط من حدوث الاقتران مع الشمس وفي وضح النهار!

يحضرني هنا، ما وقع في عيد الفطر لعام 1420هجرية/ 2000م، إذ وصل الاختلاف بين الدول الإسلامية في الاحتفال بهذا العيد الذي يوافق غرة شوال، إلى أربعة أيام كاملة! فهل هذا التباين يعود إلى اختلاف المطالع الذي يتحجج به البعض؟.   إن ما حدث وسيحدث، هو نتيجة اعتماد بعض الدول للرؤية المحلية والعينية البحتة مثل سلطنة عُمان والمغرب، حتى لو كانت خاطئة أحيانا كأن يأتي أحد الشهود ويزعم أنه رأى الهلال، فيؤخذ بقوله –عن حسن نية طبعا- دون التحقق من ذلك.

المشروع الإسلامي لرصد الهلال:

من أجل توحيد كلمة المسلمين، فقد تم إنشاء المشروع الإسلامي لرصد الهلال   ( ICOP). وهي فكرة طيبة تعتمد على جمع المعطيات ونتائج رصد الهلال طيلة السنة ليلتي التاسع والعشرين والثلاثين من كل شهر قمري، وذلك في كافة الدول العربية والإسلامية ومن ثم تحلل المعطيات والنتائج بغية التوصل إلى معيار رؤية يشتمل الشروط الفلكية للرصد.

بداية الأشهر القمرية ظاهرة فلكية بحتة وليست دينية، وهي تقدَّر بمدة دوران القمر حول الأرض خلال 29 يوما و12 سا و44 د. وبالتالي، فإن مدة الشهر القمري تكون إما 29 يوما أو 30 يوما. وهذه الحركة مضبوطة لقوله تعالى “الشمس والقمر بحسبان “الرحمن/3 ، وفي آية أخرى “هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدَّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب” يونس/5.

عندما يتزامن بداية الشهر بكسوف

يتزامن الاقتران الفلكي بين الشمس والقمر لشهر شوال لهذا العام 1445هجري مع ظاهرة الكسوف الكلي للشمس في تمام الساعة الرابعة صباحا و14دقيقة (04:14) بالتوقيت العالمي، وإن كان هذا الكسوف يحدث فوق أمريكا وجزء من كندا والمحيط الأطلسي، فإنه لا يُرى في بلادنا والوطن العربي والشرق الأوسط وإفريقيا، ولكنه دليلٌ فلكي على ولادة الهلال لشهر شوال الجديد، وهنا يطرح السؤال: لماذا لا يُعتمد حدوث الكسوف الشمسي معيارا فلكيا لبداية الشهر القمري؟! أليس هذا “حُجّة” على ولادة شهر جديد؟ خاصة أنه يقع بعد غروب الشمس في مناطق نشترك معها في الليل، كما أن القمر يومها أي يوم الاثنين 8 أفريل 2024 الموافق ل29 رمضان 1445.

في الوقت الذي أصبح العالم يشبه بالقرية الصغيرة بسبب الثورة التكنولوجية التي أصبحت تسوده في مجالات الاتصال والفضاء والصناعة والأنترنيت، وفي الوقت الذي تتوحَّد فيه أوروبا اقتصاديا وسياسيا، ويخطّط فيه غيرنا ويوحِّد جهوده وإمكاناته لغزو الكواكب البعيدة والفضاء، لا نستطيع –أو لا نريد- نحن أن نتوحد في مناسبة دينية أو تقويم، رغم أنه أنجزت عدة دراسات وتقاويم من طرف علماء عبر العالم كمقترحات لتوحيد التقويم القمري (calendrier) والأعياد.

نعم لنشر الثقافة الفلكية

ختاما، فإننا نأمل من خلال هذه المساهمة في تبسيط إحدى الظواهر الفلكية المتعلقة برؤية الأهلّة في بدايات الأشهر القمرية، أن نكون قد ساهمنا في رفع الالتباس، وسعيا منا في التوعية ونشر الثقافة الفلكية والعلمية بين الجمهور، ونحن نعيش الألفية الثالثة. كما أن تخصيص حصص وبرامج علمية فلكية مبسّطة في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، فضلا عن تشجيع وتعزيز دور الجمعيات والمراكز الفلكية سيساهم دون شك في ترقية المستوى الفلكي والعلمي للمواطن، علما أن كثيـرا من العلماء أكدوا أن اعتماد الحساب الفلكي في عصرنا لا يتنافى والشرع بتاتا بل يؤكد الرؤية العينية خاصة، كما أن اعتماد الحساب الفلكي سيوحد الرزنامات القمرية في خطوة هامة لتوحيد الأمة العربية والإسلامية. بالإضافة إلى أنه يعزز مكانة الوقت واستغلاله الجيد في مجتمعاتنا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!