تحف الأمير والدوق دومال
لست أدري كيف استطاع الدوق دومال Duc d Aumale أن يجمع بين حبّه للكتب والكتابة في قضايا تاريخية، وبين شغفه بالتحف الفنية، فهذا الرجل أقرب إلى “السيف والرمح منه إلى القرطاس والقلم” حسب تعبير المتنبي. كان يفتخر بانحداره من أصل النبلاء، فهو ابن فيليب الأول آخر ملوك فرنسا، “يسري في دمه -كما كان يقول- دم أزرق”، ويعتز بثروته التي ورثها عن أسلافه من الأمراء، وعضويّته في الأكاديمية الفرنسية، وأكاديمية الفنون، والأكاديمية الملكية البلجيكية، ونيله الدكتوراه الفخرية من جامعة أوكسفورد العريقة.
كانت حياته العسكرية صاخبة مليئة “بالمآثر”، ويداه ملطختين بدماء الجزائريين، واسمه ارتبط بالمذابح والفظائع التي ارتكبها في حق السكان العزل. قدم إلى الجزائر بعد تسع سنوات من احتلالها برتبة ملازم، وأخمد انتفاضة العفرون، ثم عاد إلى موطنه بسبب تدهور حالته الصحية برتبة مقدم. شارك في 16 ماي 1843 في الهجوم على سمالة الأمير عبد القادر، كوفئ برتبة فريق وعيّن حاكما لمقاطعة قسنطينة. ومن هناك قاد حملة على بسكرة والأوراس، حيث قضى على مقاومة مشونش. عيّن حاكما عاما للجزائر بعد بيجو. وكلّلت “مآثره” بتعيينه سنة 1847 حاكما عاما للممتلكات الفرنسية في افريقيا، قبل أن ينفى بسبب فضائحه العسكرية والسياسية إلى صقلية وإنجلترا. لم يكن محبوبا في الوسطين العسكري والسياسي، بسبب تعاليه وطموحه العارم وخصوماته المتكررة مع ملوك وحكام فرنسا. وصفه الكاتبان إدموند وجيل غونڤور بهذه العبارات “إنه نموذج لعقيد عجوز، رشيق نحيف، مظهره متلف، لحيته خاطها الشيب، أصلع، وصوته مكسور بسبب الأوامر”.
أقام الدوق دومال في الجزائر عشر سنوات، كانت كلّها دماء وتنكيلا وفظائع ونهبا، دون ضمير يؤنبه أو أخلاق تردعه. كان يعتبر تخريبه لسمالة الأمير ونهبه لممتلكاته وساما على صدره. قبل موته سلّم تحف الأمير المنهوبة إلى متحف كوندي بقصر شانتيي. وهي موجودة إلى اليوم هناك، بالإضافة إلى لوحات فنية للرسامين المستشرقين عن مظاهر من الحياة اليومية للجزائر في القرن التاسع عشر من أمثال دولاكروا ودوكان وفيرني.
من بين ما نهبه الدوق دومال أغراض شخصية للأمير، منها خيمته المشهورة، وأثاث وأختام ومجوهرات ومخطوطات نادرة مزيّنة بصور، ونفائس عن رفاه الحياة الشرقية وفنون الفروسية والقتال.
وأهم ما نهبه لوحة زيتية تمثّل الأمير رسمها الرسام البولوني ستانيسلاف شليبوفسكي سنة 1866 في القسطنطينية. ولا بأس هنا أن نستطرد قليلا لنذكر بهذا الفنان الذي انبهر بالأمير وخصاله ورفعة مقامه. تخرج شليبوفسكي في أكاديمية الفنون الجميلة بسان بطرسبورغ بروسيا، ثم درس بميونيخ. وانتقل إلى باريس، واختص في الرسم الأكاديمي، قبل أن يسحره الشرق. فسافر إلى تركيا ليصبح الرسام المعتمد في بلاط السلطان، خلّف العديد من اللوحات تمثل مشاهد عن تركيا ومصر والحياة الشرقية بصورة عامة. كما زيّن برسوماته “الكوميديا الإنسانية” لبلزاك وبعض قصص موباسان.
لوحة شليبوفسكي هي، في رأيي، من بين العديد من اللوحات المعروفة التي تمثّل الأمير، أفضل لوحة. فقد استطاع هذا الفنان أن يبرز أكثر من غيره ملامح الأمير الجامعة بين الجمال والرزانة، الزهد والوقار، التواضع والصلابة، وعزة بالنفس والكبرياء.
لقد استرجع بومدين، بحثا عن شرعية تاريخية، رفات الأمير من سوريا، حيث كان يرقد إلى جنب معلّمه محيي الدين بن عربي، وأعاد دفنه بمقبرة العالية، وينتصب له تمثالان في العاصمة ومعسكر، ووضعت صورته على نقودنا، وأنشئت باسمه مؤسسة تنشط بالمناسبات، وأقيمت حول سيرته ملتقيات، ونسينا استرجاع تحفه المنتشرة عبر العالم وترجمة سيّره التي ألّفها الأجانب عنه. ولست هنا، أنا العبد الضعيف، في مقام نصح الحكومة الجزائرية، لكن أليس استرجاع ما نهب من ممتلكات الأمير “فرض عين”، خصوصا أن حرب الذاكرة جارية حاليا مع فرنسا الرافضة للاعتذار. وهل من ايجابيات الاستعمار النهب والسلب، خاصة نهب ممتلكات الأمير، الذي وصفه الماريشال الفرنسي سولت بأنه إلى جانب محمد علي والإمام شامل –كلّهم مسلمون– أعظم ثلاث شخصيات في القرن التاسع عشر.