-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

تردّي مستوى تكوين طلبة الدكتوراه!

تردّي مستوى تكوين طلبة الدكتوراه!

من بين مراحل التعليم ما يُعرف بتكوين الدكتوراه، وهو آخر مرحلة في التعليم الجامعي. لقد كان في سابق العهد ما يسمّى، وفق النظام الفرنسي، “دكتوراه الدولة” التي لا يوضع للمسجل فيها أي قيد زمني إذ يمكن أن يناقشها بعد 4 سنوات أو 20 سنة. والطالب المسجل غالبا ما يكون يمارس التدريس فيكتسب بذلك خبرة مهنية متأنية وأيضا خبرة في البحث من خلال الاحتكاك عبر السنين بالباحثين، وهو لا يزال طالبا. كما تتدعم تلك الخبرة بحضوره الحلقات البحثية أثناء سنوات التسجيل وبعدها. ثم أتيْنا بنظام آخر (سُمّي عندنا “النظام الكلاسيكي”) يُلزم الطالب بتحضير أطروحته خلال 4 سنوات، وذلك بعد حصوله على الماجستير التي خضع فيها لتكوين قاعدي دام سنة دراسية، وبعد إعداد مذكرة بحثية تدرّب فيها على منهجيات البحث وتحرير النصوص العلمية.

مصيبة دكتوراه الـ”ل م د”

أخيرا، نحن الآن نتعاطى منذ قرابة عقدين مع “نظام ل م د” الذي يلتزم فيه الطالب بتحضير أطروحة الدكتوراه في غضون 3 سنوات بعد حصوله على شهادة الماستر. وهنا تظهر الثغرات الكبيرة في فترات التكوين: فشهادة الماستر لا تُعدّ بأي حال من الأحوال كافية ليلمّ الطالب أثناء تحضيرها بمنهجية البحث ولا بسبُل تحرير الرسائل الجامعية. أضف إلى ذلك أن الزاد العلمي للطالب الحاصل على الماستر غالبا ما يكون هزيلا ولا يمكّنه من مواصلة الدراسات العليا بارتياح، وهذا لأسباب كثيرة منها كثرة الإضرابات التي تعرفها الجامعات وتدنّي مستوى الكثير من المكوِّنين وغياب البيئة الجامعية (العلمية والبحثية) المعزِّزة للتكوين الجاد.

ثم عند التسجيل في الدكتوراه، لا يتلقى الطالب كمًّا كافيا من الدروس والمحاضرات والتدريبات لتتّسع ثقافته في اختصاصه وما جاوره من الاختصاصات؛ بل يغلق الطالب كل المنافذ العلمية والثقافية على نفسه وينكبّ مباشرة على موضوع بحثه الدقيق الوارد في عنوان رسالة الدكتوراه، وينطلق في البحث عن المراجع عبر شبكة الإنترنت دون التردُّد في النسخ واللصق لبلوغ هدف واحد في أقرب الآجال، وهو كتابة نصٍّ تقبله أي مجلة مصنَّفة للنشر. والواقع أن المجلات المصنّفة في العالم أصبحت الآن تنشر الغث أكثر من السمين لأسباب عديدة منها التجارية ومنها سوء أداء محكّمي البحوث.

النتيجة، أن طالب الدكتوراه يتخرَّج بشكل عامّ كمن يمشي على رِجل واحدة غير سليمة، لا قدرة له على الإجابة عن سؤال خارج موضوع رسالته الدقيق… هذا في أحسن الأحوال لأن حتى موضوع الرسالة، فهو لا يلمّ به بالشكل الكافي بسبب ضيق الوقت (3 سنوات) والثغرات التي يعاني منها في تكوينه الأساسي. وهناك أسبابٌ أخرى لا تسمح هذه العجالة بسردها.

وما يزيد الطين بلة في الوقت الراهن هو التوجّه المحزن للأساتذة المحاضرين الذي يجعلهم يتلهَّفون إلى الترقية من الصنف “ب” إلى الصنف “أ” دون أدنى وعي بصعوبة المهام التي تقع على عاتق الأستاذ المحاضر من الصنف “أ” في باب الإشراف على رسائل الدكتوراه. فهذا الأستاذ يعتبر الإشراف أمرا هيّنا يتمثل في دفع الطالب إلى نشر مقال يتم توقيعه بقلمهما، وأي مقال؟ في أدنى مجلة مصنّفة تقبل نشر ذلك العمل الذي غالبا ما تكون زبدته (وأيّ زبدة!) من جهد الأستاذ لعجز الطالب ولكون الأستاذ على عجلة من أمره ليترقى إلى رتبة “أستاذ دكتور”. وهذا ما يجعل تلك المقالات أقرب إلى الرَّداءة.

وإذا ما تم ذلك، اعتبر المشرف، وكذا الطالب، أن تأشيرة مناقشة الدكتوراه قد تم توقيعها ولا حاجة لتقييم التحصيل العلمي للطالب. وهكذا ينتهي مشوار تكوين طالب الدكتوراه دون تقييم حقيقي لمعارفه. وعلى إثر ذلك يُرسل المتخرِّج إلى سوق العمل. ويمضي الأستاذ المحاضر “أ” في الإشراف على رسائل الدكتوراه بوتيرة متزايدة حتى يجمع في أقرب الآجال أكبر عددٍ من النقاط ليترقى دون تأخر إلى رتبة “أستاذ دكتور” مهملا الجانب الأساسي في تكوين طلبة الدكتوراه. ومن سار على هذا الدرب، وهو برتبة أستاذ محاضر، سيواصل بنفس المنهج وهو “أستاذ دكتور”… إلا من رحم ربّك!

وهاهي النتيجة

لقد وقفنا على حقائق مذهلة خلال السنوات الأخيرة في اختصاص الرياضيات، ولا نظن أن الاختصاصات الأخرى بعيدة عما يجري في الرياضيات. لقد لاحظنا من سنة إلى أخرى تردي أوضاع التحصيل العلمي لدى طالبي التوظيف كأساتذة مساعدين من الحاصلين على الدكتوراه. ذلك أننا نجري منذ سنوات مقابلات لهؤلاء المترشحين لمنصب أستاذ مساعد يأتون من مختلف جامعات الوطن، ونشارك بعد ذلك في تكوينهم كما تنصّ عليه قوانين الوزارة.

حدث أن طرحنا على عشرات من هؤلاء خلال المقابلات وبعدها بعض الأسئلة في الرياضيات من المفروض أن يتقنها تلميذ السنة الأولى من المرحلة الثانوية ويلمّ بها تلميذ السنة الرابعة من المرحلة المتوسطة فيعجزوا عن الإجابة أو يجيبوا بعد تردد ومحاولات عديدة! فكيف بهؤلاء أن يضمنوا تدريس السنة الأولى الجامعية في كليات العلوم مثلا؟

وخلال المقابلات، نلاحظ عندما يُطلَب من المترشح تقديم نفسه أن ما يريد إبرازه هو بالدرجة الأولى موضوع مقاله الذي نُشر في مجلة مصنفة، مشيرا إلى أنه قدّم مداخلة أو أكثر في الملتقيات العلمية التي هي الأخرى صارت في كثير في الحالات ملتقيات “بزنسة” أو ملتقيات وطنية نُظّمت خصيصا لمداخلات مثل هؤلاء… بل يحدث أن تُرسل شهادة مشاركة بمداخلة حتى لمن لم يشارك فعليا عندما يتم دفع مستحقات المشاركة، أحيانا خطأ وأحيانا بسبب الإهمال أو خدمة مقصودة للمشارِك.

ويحلو للمترشح أيضا التبحّر في إبراز تفاصيل من مضمون أطروحته ليظهر بمظهر الباحث المتمكّن من اختصاصه، مع أنك تستطيع أن تسأله في موضوع أقل شأنا من ذلك الذي يتحدث عنه في أطروحته لتُفاجَئ بأنه “يرمي المنشفة” على الفور. ذلك لأنه قضى سنواته الأخيرة لا يهمه سوى موضوع أطروحته الضيق، ولم يبذل جهدا في التوسع في مواضيع أساسية في مجال اختصاصه.

ومن دون أي مبالغة حدث أن طرحنا على عشرات من هؤلاء خلال المقابلات وبعدها بعض الأسئلة في الرياضيات من المفروض أن يتقنها تلميذ السنة الأولى من المرحلة الثانوية ويلمّ بها تلميذ السنة الرابعة من المرحلة المتوسطة فيعجزوا عن الإجابة أو يجيبوا بعد تردد ومحاولات عديدة! فكيف بهؤلاء أن يضمنوا تدريس السنة الأولى الجامعية في كليات العلوم مثلا؟ وقد حدث أن أحد هؤلاء المترشحين طرحنا عليه أسئلة، لكنه كان يلحّ على أن نطلب منه تقديم نفسه بدل أسئلتنا في الرياضيات العامة. وعندما لُبّي طلبه راح يتفاخر بأنه نشر 19 بحثا في المجلات المحكّمة في أقل من 3 سنوات… وقد حصل على شهادته قبل شهور! وكل من يلمّ بمجال البحث في الرياضيات يعلم أن نشر هذا الكمّ من البحوث خلال تلك الفترة الوجيزة ليس أبدا معيارا للتفوّق بل هو معيار رداءة في التوجّه والوعي بمسؤولية الباحث.

خلاصة القول إننا نعتقد أن الأسباب الرئيسية في هذا التردي ثلاثة:

1) سوء التكوين الأولي والأساسي لطالب الدكتوراه. الحل: لا بد أن يقضي طالب الدكتوراه ما لا يقلُّ عن سنة ونصف سنة في التكوين الأساسي للمادّة، بعدّة ساعات أسبوعية، فضلا عن تكوينه في موضوع اختصاصه ليكون مؤهَّلا للتدريس قبل أن يكون باحثا.

2) لامبالاة وعدم كفاءة عدد كبير من المشرفين على رسائل الدكتوراه الذين لا يعيرون الوقت والاهتمام اللازمين لمرافقة الطالب. نعتقد أن محاولة حلِّ هذه المسألة تقضي بأن يقوم بالأشراف على كل طالب دكتوراه مشرفان معًا: أستاذ محاضر وأستاذ دكتور خبير في الإشراف.

3) إحالة الأساتذة الجامعيين قبل سنتين وبدون استثناءات كل من تجاوز منهم 75 سنة دفعة واحدة، وإحالة هذه السنة من تجاوز 70 سنة دفعة واحدة. هذا يعني أن الجامعة انقطعت بين عشية وضحاها عن خدمات مئات الأساتذة ذوي الخبرة الواسعة دون مراعاة تداعيات ذلك على مستوى التكوين في مستوى الدكتوراه.

ولذا نرى أنَّ محاولة الحفاظ قدر المستطاع على مستوى التكوين الجامعي (خاصة في مجال الإشراف على الدكتوراه) تدعو المسؤولين إلى إعادة النظر العاجلة في كيفية إحالة قدماء الأساتذة على التقاعد. وإذا لم يتم ذلك فسيزيد الوضع ترديا سنة بعد سنة؛ إذ إن العمل بالقانون الساري المفعول سيجعل الجامعة تفرغ من نخبتها خلال السنوات القليلة القادمة.

وأكثر من ذلك، فإنَّ الوضع يستدعي التوجُّه نحو وضع إستراتيجية تعاون مع الجالية المهاجرة، وهي تتشكل من فئتين، فئة أحيلت على المعاش في بلاد الغربة وفئة لازالت عاملة في مختلف الجامعات عبر العالم. نرى أن وضع جامعاتنا في مجال التكوين في مستوى الدكتوراه اليوم يفرض على الوصاية سنّ قوانين عاجلة تجعل جامعاتنا تتعاون بشكل مرن مع هؤلاء جميعا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • ighil

    بارك الله فيك على هذه المداخلة القيمة