-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

تلميذٌ يؤرِّخُ مؤدّبَه

لمباركية نوّار
  • 1050
  • 0
تلميذٌ يؤرِّخُ مؤدّبَه

تكشف ساحة الإنتاج الفكري على رحابتها أن صنف الكتابة عن المعلمين والأساتذة والمربين والمؤدبين والتأريخ لهم قليل الإتيان من طرف متعلميهم ونادر الحدوث، ويأخذ عند الأكثرية صورة الإعراض المطلق. ولما يحصل، فإنه لا يكون إلا ذكرا خاطفا وسريعا وعابرا. وحتى أثناء كتابة المذكرات، فإن ذكر المعلمين والأساتذة تبقى قضية متجاهلة ويكاد لا يلتفت إليها. ولا أعرف مبررا لهذا الإعراض الذي لا يقبل أن يدرج أبدا في نطاق الجحود والنكران وعدم الاعتراف بالجميل. وإنما قد نجد له مبررات وتفسيرات في بحر علم النفس.

من قراءاتي المتواضعة، لم أعرف من كتب في هذا الموضوع وأبدع وأغنى وأشبع مثل الأديب والشاعر الدكتور محمد صالح ناصر الذي وضع كتابا كاملا تحدث فيه عن مؤدبيه وأساتذته الذين جلس أمامهم مغترفا من علومهم، وآخذا من معين تجاربهم من المدرسة الابتدائية حتى مرحلة تعلمه الجامعية العليا. وعنوان مؤلفه الفخم الذي يستحق القراءة هو: “مشايخي كما عرفتهم”. ومن البين أن العلاقة بين أستاذنا الكبير الدكتور محمد صالح ناصر ومعلميه وأساتذته لم تكن مجرد علاقة سطحية، وإنما تجاوزت ذلك إلى حدود أبعد حتى أنجبت إفاضة غنية في التذكر والسرد، وأحاطت بالمعنى العميق لمصطلح: “الابن الروحي”. ولا شك أن الإكبار والتجلة والاحترام لمشايخه هي من حركت فورة مداد قلمه، وأسالته رقراقا ومتدفقا ومدرارا إلى درجة أنه حوّل أمنية سكنت قلبه إلى حقيقة مجسدة أشاعها بين الناس. ونجده يقول في مطلع مقدمته: (بحمد الله ومنّته تحققت أخيرا هذه الأمنية التي تمنيتها طوال سني حياتي العلمية والدراسية، أي أمنية الكتابة عن علاقتي الشخصية بمشايخي الذين علمّوني، وربّوني وأثّروا في نفسي وفكري بنحو أو بآخر).

أدلف عائدا إلى موضوع مقالي، فالكتاب الذي أقصده كاد أن يختفي بلا ذكر أو أثر، ويحمل عنوان: “صورة من حياة ونضال الزعيم الإسلامي والمصلح الديني الكبير الشيخ عبد الحميد بن باديس”. وأما واضعه، فهو تلميذ المترجم له الشيخ محمد المنصوري الغسيري.

تكمن قيمة الكتاب المذكور في أن كاتبه عاش قريبا من المترجم له لمدة زمنية تقدر بسبع سنوات. وكان من أنجب تلامذته وأرغبهم في التحصيل العلمي ومن المنهومين العطشى في طلب المعرفة. وكان من أهل ثقة مؤدبه ومن زمرة خلصائه الذين يعوّل عليهم في مواقع الجد وأزمان تحمل المسؤولية وأداء الواجبات الثقيلة والعظمى بلا تردد أو وجل. ويكفيه فخرا أن شيخه كان ينتدبه ويرشحه، وهو تلميذ، لإنابته وتقدم حلقة زملائه كلما غاب عن جلسات التدريس لسبب أو لآخر. وكان هذا التلميذ النجيب محبا لمؤدبه ومطيعا له، وموقرا لشخصه حتى وهو يكتب عنه إلى درجة أنه في كثير من محطات الكتاب لا يذكر اسمه إلا وقد قدم له بعبارة: “الأستاذ الرئيس”.

لا ينكر أن الكتاب ليس فريدا في موضوعه على وجه الإجمال وبشكل عام، لأن الكتابات عن الشيخ المصلح عبد الحميد بن باديس تكاثرت وتناسلت بعدد كبير إلى درجة أن السابقين قد فتشوا في كل أسرار حياته، وقتلوها بحثا وتحليلا مرارا وتكرارا، ولم يخلفوا شيئا ينظر فيه أمام من يأتي متخلفا في ركب الأواخر.

لما كان المربي المترجم له غني عن كل تعريف، لا نرى امتناعا في بسط نبذة مختصرة عن تلميذه الذي أرّخه. فالشيخ محمد الغسيري (1915 ـ  24 جويلية 1974م) لقبه: “يكن”، وكنيته “الغسيري” نسبة إلى بلدة صغيرة حسنة الموقع وجميلة المنظر، وهي “غسيرة” مسقط رأسه ومربع أهله وعشيرته. وهو واحد من رجال الأوراس المثقفين الفحول والكمّل، ومن أصحاب الهمم الأقوياء الأشداء والبارعين الأمناء الذي خلد اسمه منقوشا على صفحة المجد المحلي والوطني والقومي بفضل جهاده العملي المتواصل الخالي من كل تلكؤ أو انقطاع رغم أنه لم يعمر طويلا. فقبل الثورة التحريرية، اشتغل معلما ومديرا ثم مفتشا في عدد من مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالشرق الجزائري. وأثناءها ارتحل إلى المشرق العربي، واستقر في سوريا، وعمل جنبا إلى جنب في المجال السياسي مع المفكر الأستاذ عبد الحميد مهري للترويج والدعاية لثورة نوفمبر، وجمع الأنصار حولها وتعبئة المؤيدين لها. وكان حظه التوفيق في خدمة قضية وطنه بفضل ما كان يتصف به من سمات شخصية نادرة وخصال إنسانية حميدة. وبعد استرجاع الاستقلال الوطني، اختير للعمل في السلك الديبلوماسي، وعين سفيرا في السعودية أولا، ثم نقل إلى الكويت. وظل كذلك حتى وافاه أجله المحتوم.

إذا رأيتم ـيا هؤلاءـ عبدَ الحميد اليوم يخطب في هذا المجتمع الفني العربي؛ فإنما لأنه يؤمن بأن شعبه لا بد أن يغنِّي، فإما أن يغني بلسان قومه ونَغم فنه، وفي ذلك ما فيه من عواطف قومية وطنية تصل الحاضر بالماضي وتربطهما بالمستقبل. وإلا فإنه سيغني بلسان من يستعمره بحكم ثقافته المفروضة عليه فرضا، ويستعير نغم بوزار وبيتهوفن ونيني وغيرهم من أعلام الموسيقى والغناء في ديار الغرب، ويومئذ يخسأ المبطلون ويخسر المتزمّتون الجامدون.

يذكر التلميذ في كتابه أن معلمه نحا منحى تجديديا في عمله التعليمي لم يكن معروفا من قبله في أرض الجزائر أيام الاستعمار الفرنسي. ويقول في هذا السياق: (وبدأ الرجل التدريس بأسلوب جديد، وفي كتب جديدة لم يكن الناس يدرسونها لبعدهم عنها أو لخوفهم من الاستعمار الذي كان يحرّم حتى في بعض الزوايا العائدة لرجال الطرق الصوفية تعليمها مثل مقدمة ابن خلدون في علم الاجتماع وتاريخ الإسلام السياسي وكتاب الجهاد من الكتب الفقهية. كما كان يحظر على الناس تدريس الرياضيات والعلوم الحديثة باللغة العربية؛ لأن ذلك يتعارض مع مبدأ السيادة للغة الفرنسية الرسمية بطبيعة الحال).

خطط الشيخ عبد الحميد بن باديس لعصمة طلابه بعد أن أصبحوا من رجالات الميدان المساهمين في وثبته النهضوية من قيود وأغلال الاستعمار، وإبعادهم من الوقوع في شراك مخططاته الماكرة، ومنعهم من الانقياد لها والسير خلفها، ولذا رسم لهم حدودا لا ينبغي لهم تجاوزها حتى يظلوا أحرارا في أفكارهم وفي قراراتهم وخياراتهم. وفي هذا الشأن، يقول عنه تلميذه: (… أن يعملوا للعيش من كد يمينهم، وحرّم على أتباعه أن يقبلوا الوظائف لدى الدوائر الاستعمارية، وأن يتحاشوا الانزلاق في التقرب من هذه الدوائر ومغريات تلك الوظائف؛ لأنها قيود وأغلال وشباك للنصب والاحتيال).

عندما يتحدث التلميذ عن تقشف شيخه في عيشه، والاكتفاء في أكله بالقليل الذي يسد رمقه، يذكر معاداته الإسراف والإفراط والمبالغة في اقتناء طعامه، ويتوقف عند مشروبه المفضل والطريقة التي يهواها في تحضيره، فيقول واصفا حاله: (هناك في المدرسة، كان عبد الحميد يسكن ويعيش على رغيف وكأس لبن وبعض الزبد والتين المجفف والزيتون ومشتقاته لا غير. وكان يكلف بعض طلابه لإحضارها له عند انتهاء دروسه قريبا من منتصف الليل. وكان شرابه المفضل القهوة على الطريقة التركية “الجزوة”).

أراد الشيخ ابن باديس أن تكون نهضته الإصلاحية المباركة شاملة لكل مناحي الحياة حتى لا يترك ثغرا أو كوة يتسلل منها الفرنسيون لاستمالة الجزائريين ولاسيما إذا تعلق الأمر برغبات الشباب وميولاتهم في صرف الطاقة الحيوية التي تغمرهم. وقد أورد الكاتب في ثنايا الكتاب موقفا من مواقف شيخه الذي قد لا يقبله المتزمون المنغلقون الذاهبون في الغلو والتضييق مؤداه ما يلي: (وكان عبد الحميد بن باديس كذلك مع الجمعيات الرياضية والفنية المسرحية، فقد خطب يوما في نادي الاتحاد بقسنطينة عندما تأسست”جمعية محبي الفن”، وقال: قد يقول الناس: ما بال هذا الرجل المعمم والداعي إلى الله يشارك جمعيات فنية بالغناء والموسيقى وما أبعدهما عن الدين؟، إذا قالوا ـ ولهم أن يقولوا ـ. أما أنا فأرى أن لكل شعب هواجس وأحاسيس قومية لا يحيا بدونها، ولم يكن عبثا أبدا أن نرى في العهود الإسلامية الزاهرة أعلاما في الدين وأساتذة في الطب وأقطابا في الموسيقى والنغم مثل ابن رشد وابن سينا وغيرهما، وكلهم أئمة في الدين يسمحون بالغناء والموسيقى، ولم يخل من ذلك حتى عهد الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم. فإذا رأيتم ـ يا هؤلاء ـ عبد الحميد اليوم يخطب في هذا المجتمع الفني العربي؛ فإنما لأنه يؤمن بأن شعبه لا بد أن يغني، فإما أن يغني بلسان قومه ونغم فنه، وفي ذلك ما فيه من عواطف قومية وطنية تصل الحاضر بالماضي وتربطهما بالمستقبل. وإلا فإنه سيغني بلسان من يستعمره بحكم ثقافته المفروضة عليه فرضا، ويستعير نغم بوزار وبيتهوفن ونيني وغيرهم من أعلام الموسيقى والغناء في ديار الغرب، ويومئذ يخسأ المبطلون ويخسر المتزمتون الجامدون ويندمون ولات حين مندم). (ص: 123 و124). ولا يريد الشيخ الرئيس أن يختم كلمته من دون أن يحشد مبررا يقوي به رأيه، ولذلك يقول: (إن واجبي الديني والوطني يدعوني أن أنبذ الدخيل المستورد ولو كان براقا، وأبعث الفن الوطني القديم ولو كان هزيلا الآن، ولكنه سيحيى لا محالة  يوما ما كفن عربي مستقل له شخصيته و طريقته وتطوره ولو بعد حين).

لم يكن أصل هذا الكتاب سوى أوراق مسوّدة مرقونة كتبت على بعض سطورها تصويبات من وضع صاحبها الشيخ محمد الغسيري بقلمه، وظل في طي النسيان والاكتنان لمدة زادت عن ثلاثين سنة من بعد موته، رحمه الله. وشاءت رياح التقديرات الحكيمة أن تسوق نسخا من هذه الأوراق إلى أيدي الدكتور مسعود فلوسي بعد أن سمع بها، وبحث عنها طويلا، وسأل من يقربه منها. وقد لعبت كريمة المؤلف السيدة باسمة التي ظلت تحتفظ بالنسخة الأصلية دورا في ذلك.

لست أدري على أي وجه تقوّم رؤية باعث الكتاب بعد طول اختفاء إلى جموع القراء والمتمثلة في إضافة ثلاث مقالات كتبها الشيخ الغسيري في أزمنة متفرقة ذيل بها المادة الأصلية للكتاب؟. وأرى من جانبي، وقد أكون مخطئا، أن التفاف هذه المقالات حول موضوع الكتاب وتكاملها معها لا يكفي لتبرير ضمها إليه وإلحاقها به؟؟. لكن، ومهما كان الأمر، فإن جهد الدكتور مسعود فلوسي سيظل محل تقدير وشكر في إنقاذ هذه الوثيقة الثمينة من الضياع والاختفاء كما حصل مع كثير من تراث الجزائر المكتوب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!