الرأي

توضيح المفاهيم.. قبل فوات الأوان

محمد سليم قلالة
  • 2936
  • 7

لقد سبق لنا أن ذكرنا في مقال سابق (هندسة الرؤية: عناصر منهجية)، أن هذه الرؤية تتطلب إطارا عاما يتحرك ضمنه فعل الاستباق والاستحداث أي الاستشراف، هذا الإطار العام تحكمه خمس مسائل جوهرية من بينها وضوح المفاهيم، وتحديد قاعدة الانطلاق، والنظرة للأسس المفاهيمية بأثر رجعي لتفسير إدراكنا السابق للسياسات حتى نتمكن اليوم من الزعم أنه باستطاعتنا أن نصوغ رؤيتنا المستقبلية بأبعاد محددة ومفاهيم واضحة.

إن عدم انتباهنا لأخطاء الماضي المتعلقة بالمفاهيم خاصة، وللأسباب الجوهرية التي جعلت واقعنا اليوم مضطربا ومنعتنا من الإقلاع الحقيقي، هو الذي يمنعنا اليوم من أن نتحرك بخطى ثابتة نحو المستقبل. لقد كان تطلعنا الأول هو”إقامة بناء الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة في إطار المبادئ الإسلامية” كما جاء في بيان أول نوفمبر 1954. لو فككنا مصطلحات هذه الغاية لوجدنا كلا منها يحتاج إلى قراءة منفصلة وإلى متابعة دقيقة لها عند التطبيق لاستخلاص الدروس والعبر وتحديد قاعدة الانطلاق، إن مفاهيم الدولة و”الديمقراطية الاجتماعية” و”السيادة” و”المبادئ الإسلامية” وحركتها في الواقع الجزائري عبر أكثر من خمسين سنة تحتاج منا إلى وقفة تأملية إذا ما أردنا أن نصوغ مشروعنا المستقبلي للخمسين سنة القادمة.

هل كان العمل الذي تم منذ الاستقلال يصب باتجاه تجسيد هذه المفاهيم في الواقع وتعميق إدراكنا لها، أم أنه كان يسير نحو الابتعاد عنها وإفراغها من محتواها لتُستبدل بأخرى غير مستمدة من الجذور الفكرية والحضارية الجزائرية الضاربة في عمق التاريخ؟ أم كان العمل باتجاهها عشوائيا غير قادر على الوصول إلى جوهرها؟ أم موجها لكي نحيد عن فهمها الحقيقي ونفقد حلقة الربط بين ماضينا ومستقبلنا فنصبح طيّعين بأيدي أي كان يوجهنا؟

يبدو أن بلادنا تعرضت لكل أشكال الضغط السياسي والفكري والاقتصادي لكي لا تربح معركتها الأولى هذه، أي أن تكون هي ذاتها كما أرادت وأن تستمر في بلورة مشروع الرؤية الأول الذي تمت صياغته قبل شروعها في الفعل الثوري المعبر عن وصولها إلى مرحلة النضج غير المستعد للانتظار. وبرغم محاولات الكثير من أبنائها البقاء ضمن خط البناء هذا إلا أنهم  غُلبوا على أمرهم في كثير من الأحيان.

جاءت الخيارات الاشتراكية في بداية الاستقلال كمحاولة لتفسير اجتماعية الثورة، أو كتطوير لمصطلح “الديمقراطية الاجتماعية”، واعتبر الذين صاغوا ميثاق الجزائر بالخصوص أنها خيار الشعب الذي لا رجعة فيه، واستغل البعض هذا التوجه الاجتماعي ليحاولوا إعطاء المشروع الوطني صبغة ـ التيارات اليسارية آنذاك ـ ومنهم من ذهب بعيدا إلى حد الاقتراب من النظرية الشيوعية ضمن سياق دفاعه عن اجتماعية الثورة. وبدا وكأننا نحاول أن نجد القاعدة النظرية لتفسير هذا البعد الاجتماعي في غير ما نملك من تراث، فكري وعقائدي. ووصلت المزايدات بالبعض إلى حد تفسير الثورة الجزائرية بأنها جزء من الثورات ذات الفلسفة الماركسية اللينينة أو الماوية وليست امتدادا لعمق تاريخي متميز بتراثه وقيمه وتفسيره المتميز للفعل الثوري أو للعمل المسلح. وبدل أن يكون الحوار الداخلي بيننا هو أساس حل هذا الإشكال اتّجه الفصيل الأقوى ـ من موقع السلطةـ  آنذاك إلى إقصاء الفصيل الأضعف، ووجد دُعاة تأصيل مفهوم اجتماعية الثورة ضمن المبادئ الإسلامية أنفسهم ضمن ما يُعرف بمعسكر الرجعية والآخرون ضمن ما يُعرف بمعسكر التقدمية، وبقي الوطنيون الحقيقيون في الوسط عاجزين عن إيجاد تسوية تاريخية بين هؤلاء وهؤلاء… ولم تتمكن البلاد من أن تخرج بصيغة جامعة لمفهوم”الديمقراطية الاجتماعية” ولعلها ما زالت إلى اليوم ولن تستطيع في المستقبل إذا ما استمر الحال عليه كما هو الآن.

ولعل هذا مرتبط بالأساس بمستوى المصطلح الثاني المتعلق بموقع المبادئ الإسلامية من التصور، فبينما رأى البعض أنها هي الإطار العام الذي يغلف القيم والفعل والغاية المنشودة في آن واحد، اعتبر آخرون أن هذا الإطار العام إنما هو فقط ذلك الغلاف الأخلاقي الذي ينبغي أن يسود  المجتمع، وينبغي ألا يتم إقحامه ضمن “الفعل” أي السياسات التطبيقية، ولا ضمن القيم “الجذور والمنطلقات” ولا ضم الغاية التي تستهدفها السياسات العامة المطبقة في جميع المجالات، وهنا أيضا تم تحييد الاتجاه الأول باعتباره “محافظا” غير قادر على استيعاب التطور، وفٌتح المجال أمام الاتجاه الثاني الذي تمكن في مستويات معينة من أن يجعل كلا من تغريبه وفرنسته للمجتمع معالم تقدم ونجاح حتى بعد نحو 30 سنة من الاستقلال. وكان هذا من أسباب تحول شرائح واسعة من المجتمع إلى النقيض التام لهذا التوجه من خلال العودة إلى الصحوة ورفع شعار لا بديل عن الإسلام: الإسلام هو الحل.

وبدل أن يتم النظر إلى هذا التحول ضمن الانحراف الأول الذي وقع على مستوى المفاهيم، تم النظر له ضمن مستوى آخر يتعلق بالارتباط بالأفكار الوافدة من الشرق في مواجهة تلك الوافدة من الغرب، وتم التعامل معه على هذا الأساس ومازال لحد الآن.. والجميع يعرف نتيجة ذلك الصراع بعد أن فلتت الأمور من الجميع، (عشرية سوداء بمعنى الكلمة).

وكان يُفترض أننا بعد هذه العشرية السوداء أن نصل إلى مرحلة إعادة ترتيب أسس البيت الفكرية والعقائدية من منطلقاتنا الأولى، وأن نعيد صوغ مشروعنا الوطني على أساس جذور الماضي وحقائق الحاضر وتطلعات المستقبل، فإذا بنا نعيد طلاء البيت بمساحيق عدة من غير أن تكون لنا القدرة على القيام بهذا العمل الاستراتيجي الذي سيمكننا من إيضاح ملامح طريق المستقبل، وتركنا الغموض سيد الموقف، وقام من بيده السلطة بإحلال الأهداف الاعتيادية أو الجزئية محل تلك الكبرى البعيدة المدى التي تنم عن رؤية واسعة للمستقبل وتُمكن الأجيال القادمة من أن تعيش في أمن واستقرار.

  لقد كان تفكير القيادة في هذه الفترة في الحاضر فقط من غير أي إرساء أو إعادة ترميم الأسس للمستقبل، وهو الخلل الذي ينبغي أن يصحح قبل أي خلل آخر إذا ما أردنا أن نواصل إعادة بناء الدولة الجزائري ذات السيادة، وهو ما أصبحت تعبر عنه الكثير من القوى الوطنية من غير الدعوة إلى صوغ ميثاق رؤية جديدة للمستقبل، أو إعلان مبادئ يتم الاتفاق بشأنها تحصنا من الانزلاق نحو ما لا تحمد عقباه.

 

إن تعاملنا السابق مع مصطلحات الدولة ذات السيادة، ومع المبادئ الإسلامية، ومع الديمقراطية الاجتماعية هو الذي أربك قاعدة الانطلاق لدينا وأوصلنا إلى خلل العشرية السوداء، وإذا أردنا ألا يتكرر هذا فليس أمامنا اليوم سوى أن نمكن المجتمع في جميع مستوياته، وكما هو اليوم، بجميع مكوناته وخصائصه من أن يساهم في توضيح المفاهيم القاعدية التي ستحكم مستقبله سواء تعلق الأمر بالدين أو الدولة، اللغة أو السياسة أو الخيارات الكبرى المستقبلية، من خير خوف أو تردد لأننا إذا كنا نخاف اليوم أن نطرح مثل هذه المسائل للنقاش، ونخاف من صعوبة الوصول إلى حل فيها، فإننا غدا لن يكون في مقدورنا لا فتح مثل هذا النقاش ولا الوصول إلى حل، لأننا سنكون في حالة استعجال، وعندما يكون الأمر مستعجلا فقد يكون الأوان قد فات وانتهى.

مقالات ذات صلة