-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

توضيح المفاهيم.. قبل فوات الأوان

توضيح المفاهيم.. قبل فوات الأوان

لقد سبق لنا أن ذكرنا في مقال سابق (هندسة الرؤية: عناصر منهجية)، أن هذه الرؤية تتطلب إطارا عاما يتحرك ضمنه فعل الاستباق والاستحداث أي الاستشراف، هذا الإطار العام تحكمه خمس مسائل جوهرية من بينها وضوح المفاهيم، وتحديد قاعدة الانطلاق، والنظرة للأسس المفاهيمية بأثر رجعي لتفسير إدراكنا السابق للسياسات حتى نتمكن اليوم من الزعم أنه باستطاعتنا أن نصوغ رؤيتنا المستقبلية بأبعاد محددة ومفاهيم واضحة.

إن عدم انتباهنا لأخطاء الماضي المتعلقة بالمفاهيم خاصة، وللأسباب الجوهرية التي جعلت واقعنا اليوم مضطربا ومنعتنا من الإقلاع الحقيقي، هو الذي يمنعنا اليوم من أن نتحرك بخطى ثابتة نحو المستقبل. لقد كان تطلعنا الأول هو”إقامة بناء الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة في إطار المبادئ الإسلامية” كما جاء في بيان أول نوفمبر 1954. لو فككنا مصطلحات هذه الغاية لوجدنا كلا منها يحتاج إلى قراءة منفصلة وإلى متابعة دقيقة لها عند التطبيق لاستخلاص الدروس والعبر وتحديد قاعدة الانطلاق، إن مفاهيم الدولة و”الديمقراطية الاجتماعية” و”السيادة” و”المبادئ الإسلامية” وحركتها في الواقع الجزائري عبر أكثر من خمسين سنة تحتاج منا إلى وقفة تأملية إذا ما أردنا أن نصوغ مشروعنا المستقبلي للخمسين سنة القادمة.

هل كان العمل الذي تم منذ الاستقلال يصب باتجاه تجسيد هذه المفاهيم في الواقع وتعميق إدراكنا لها، أم أنه كان يسير نحو الابتعاد عنها وإفراغها من محتواها لتُستبدل بأخرى غير مستمدة من الجذور الفكرية والحضارية الجزائرية الضاربة في عمق التاريخ؟ أم كان العمل باتجاهها عشوائيا غير قادر على الوصول إلى جوهرها؟ أم موجها لكي نحيد عن فهمها الحقيقي ونفقد حلقة الربط بين ماضينا ومستقبلنا فنصبح طيّعين بأيدي أي كان يوجهنا؟

يبدو أن بلادنا تعرضت لكل أشكال الضغط السياسي والفكري والاقتصادي لكي لا تربح معركتها الأولى هذه، أي أن تكون هي ذاتها كما أرادت وأن تستمر في بلورة مشروع الرؤية الأول الذي تمت صياغته قبل شروعها في الفعل الثوري المعبر عن وصولها إلى مرحلة النضج غير المستعد للانتظار. وبرغم محاولات الكثير من أبنائها البقاء ضمن خط البناء هذا إلا أنهم  غُلبوا على أمرهم في كثير من الأحيان.

جاءت الخيارات الاشتراكية في بداية الاستقلال كمحاولة لتفسير اجتماعية الثورة، أو كتطوير لمصطلح “الديمقراطية الاجتماعية”، واعتبر الذين صاغوا ميثاق الجزائر بالخصوص أنها خيار الشعب الذي لا رجعة فيه، واستغل البعض هذا التوجه الاجتماعي ليحاولوا إعطاء المشروع الوطني صبغة ـ التيارات اليسارية آنذاك ـ ومنهم من ذهب بعيدا إلى حد الاقتراب من النظرية الشيوعية ضمن سياق دفاعه عن اجتماعية الثورة. وبدا وكأننا نحاول أن نجد القاعدة النظرية لتفسير هذا البعد الاجتماعي في غير ما نملك من تراث، فكري وعقائدي. ووصلت المزايدات بالبعض إلى حد تفسير الثورة الجزائرية بأنها جزء من الثورات ذات الفلسفة الماركسية اللينينة أو الماوية وليست امتدادا لعمق تاريخي متميز بتراثه وقيمه وتفسيره المتميز للفعل الثوري أو للعمل المسلح. وبدل أن يكون الحوار الداخلي بيننا هو أساس حل هذا الإشكال اتّجه الفصيل الأقوى ـ من موقع السلطةـ  آنذاك إلى إقصاء الفصيل الأضعف، ووجد دُعاة تأصيل مفهوم اجتماعية الثورة ضمن المبادئ الإسلامية أنفسهم ضمن ما يُعرف بمعسكر الرجعية والآخرون ضمن ما يُعرف بمعسكر التقدمية، وبقي الوطنيون الحقيقيون في الوسط عاجزين عن إيجاد تسوية تاريخية بين هؤلاء وهؤلاء… ولم تتمكن البلاد من أن تخرج بصيغة جامعة لمفهوم”الديمقراطية الاجتماعية” ولعلها ما زالت إلى اليوم ولن تستطيع في المستقبل إذا ما استمر الحال عليه كما هو الآن.

ولعل هذا مرتبط بالأساس بمستوى المصطلح الثاني المتعلق بموقع المبادئ الإسلامية من التصور، فبينما رأى البعض أنها هي الإطار العام الذي يغلف القيم والفعل والغاية المنشودة في آن واحد، اعتبر آخرون أن هذا الإطار العام إنما هو فقط ذلك الغلاف الأخلاقي الذي ينبغي أن يسود  المجتمع، وينبغي ألا يتم إقحامه ضمن “الفعل” أي السياسات التطبيقية، ولا ضمن القيم “الجذور والمنطلقات” ولا ضم الغاية التي تستهدفها السياسات العامة المطبقة في جميع المجالات، وهنا أيضا تم تحييد الاتجاه الأول باعتباره “محافظا” غير قادر على استيعاب التطور، وفٌتح المجال أمام الاتجاه الثاني الذي تمكن في مستويات معينة من أن يجعل كلا من تغريبه وفرنسته للمجتمع معالم تقدم ونجاح حتى بعد نحو 30 سنة من الاستقلال. وكان هذا من أسباب تحول شرائح واسعة من المجتمع إلى النقيض التام لهذا التوجه من خلال العودة إلى الصحوة ورفع شعار لا بديل عن الإسلام: الإسلام هو الحل.

وبدل أن يتم النظر إلى هذا التحول ضمن الانحراف الأول الذي وقع على مستوى المفاهيم، تم النظر له ضمن مستوى آخر يتعلق بالارتباط بالأفكار الوافدة من الشرق في مواجهة تلك الوافدة من الغرب، وتم التعامل معه على هذا الأساس ومازال لحد الآن.. والجميع يعرف نتيجة ذلك الصراع بعد أن فلتت الأمور من الجميع، (عشرية سوداء بمعنى الكلمة).

وكان يُفترض أننا بعد هذه العشرية السوداء أن نصل إلى مرحلة إعادة ترتيب أسس البيت الفكرية والعقائدية من منطلقاتنا الأولى، وأن نعيد صوغ مشروعنا الوطني على أساس جذور الماضي وحقائق الحاضر وتطلعات المستقبل، فإذا بنا نعيد طلاء البيت بمساحيق عدة من غير أن تكون لنا القدرة على القيام بهذا العمل الاستراتيجي الذي سيمكننا من إيضاح ملامح طريق المستقبل، وتركنا الغموض سيد الموقف، وقام من بيده السلطة بإحلال الأهداف الاعتيادية أو الجزئية محل تلك الكبرى البعيدة المدى التي تنم عن رؤية واسعة للمستقبل وتُمكن الأجيال القادمة من أن تعيش في أمن واستقرار.

  لقد كان تفكير القيادة في هذه الفترة في الحاضر فقط من غير أي إرساء أو إعادة ترميم الأسس للمستقبل، وهو الخلل الذي ينبغي أن يصحح قبل أي خلل آخر إذا ما أردنا أن نواصل إعادة بناء الدولة الجزائري ذات السيادة، وهو ما أصبحت تعبر عنه الكثير من القوى الوطنية من غير الدعوة إلى صوغ ميثاق رؤية جديدة للمستقبل، أو إعلان مبادئ يتم الاتفاق بشأنها تحصنا من الانزلاق نحو ما لا تحمد عقباه.

 

إن تعاملنا السابق مع مصطلحات الدولة ذات السيادة، ومع المبادئ الإسلامية، ومع الديمقراطية الاجتماعية هو الذي أربك قاعدة الانطلاق لدينا وأوصلنا إلى خلل العشرية السوداء، وإذا أردنا ألا يتكرر هذا فليس أمامنا اليوم سوى أن نمكن المجتمع في جميع مستوياته، وكما هو اليوم، بجميع مكوناته وخصائصه من أن يساهم في توضيح المفاهيم القاعدية التي ستحكم مستقبله سواء تعلق الأمر بالدين أو الدولة، اللغة أو السياسة أو الخيارات الكبرى المستقبلية، من خير خوف أو تردد لأننا إذا كنا نخاف اليوم أن نطرح مثل هذه المسائل للنقاش، ونخاف من صعوبة الوصول إلى حل فيها، فإننا غدا لن يكون في مقدورنا لا فتح مثل هذا النقاش ولا الوصول إلى حل، لأننا سنكون في حالة استعجال، وعندما يكون الأمر مستعجلا فقد يكون الأوان قد فات وانتهى.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
7
  • عبدالقادر

    نريد حكما يتناسب و مباديء نوفمبر ضمن القيم التي نادى بها الشيخ المصلح بن باديس رحمه الله في قصيدته شعب الجزائر. :
    شعب الجزائر مسلــــــــــــم و الى العروبة ينتســـــــــــــــب

    من قال حاد عن اصلـــــــــــه او قال مات فقد كـــــــــــــــــذب

    او رام ادمــــــــــــاجا لــــــــه رام المحال من الطلــــــــــــــب

    يا نشء انت رجاؤنـــــــــــــــا و بك الصبـــــــــــــاح قد اقترب

    خذ للحياة سلاحهــــــــــــــــا و خض الخطــــــــــوب ولا تهب

    .... الى اخر القصيدة

  • لصوان كافية

    أستاذي المحترم , إن مقالك هذا يذكرني بأول محاضرة كنت ألقيتها لطلبة الجذع المشترك في مادة الفكر السياسي خلال الموسم الجامعي 1999_ 2000 حول منهجية الوحدة التي كنت محاضرا لها, وقلت أن الأفكار و المعلومات قد ننساها غير أن منهج التفكير يبقى راسخا , وبناء على هذا فإننا سواء كنا من عامة الناس أم من نخبة المجتمع فإن المشكل المطروح هو مشكل تحديد المفاهيم و المشكل الأخر هو كيفية النزول به من التجريد إلى التجريب ؟؟؟؟ لأن طريقة فهمنا لها تصطذم في غالب الأحيان بعدم الفهم الموحد للاخرين لها , إ

  • هلامي

    اليكم هذه المحطات التى تدل بدقة على النية المخلصة من طرف رفاق الشهداء لتطبيق مبادىء نوفمبر وبناء دولة حديثة يحكمها القانون 1- الصراعات قبل واثناء وبعد مؤتمر طرابلس
    2- الانقلاب على الحكومة المؤقتة والاستيلاء على السلطة ثم
    القيام بنفى وسجن وابعاد معظم زعماء الثورة
    3- مناقشة واصدار الدستور فى قاعة سينما
    4-الانقلاب مرة ثانية على الشرعية ووصول محتكر السلطات

    5-الاغتيالات المتوالية فى حق كل معارض
    6-الصراعات والتطاحن والتصفيات بين الزمر .هل هذه اساليب تدل على اناس اصحاب عقل ورؤية مستقبلية سليمة

  • فاروق

    الجماعة الحاكمة ترفض وسترفض كل حل يوصل الى حل مشكلاتنا من الاساس بدليل ان الافعال تتعاكس والاقوال لدى معظم حكامنا .
    ومرد ذلك كراهية بعضهم للشعب واخرون لضعف مستوياتهم الفكرية والسياسية خاصة عندما اصبح اهل الحل والربط يصل بعضهم دون معرفة علمية او شهادة دراسية ومنهم من يشرع وهو لا يعرف القراءة ويرفض التصريح بمستواه ضف الى ذلك تموضع الشيوعيين في مناصب قيادية غداة توقيف المسار الانتخابي واستمرار هذا الغلق للملفات الكبرى دليلا على استمرار الازمة السياسية والاخلاقية ولعلها تتحول يوما ما الى اقتصادية

  • ابراهيم غمري

    بعد الاِخفاقات السياسية المتكررة في الجزائر 91 في مصر 2013 في تونس في ليبيا السؤال المستقبلي ماهي الاستراتيجية السياسية للنهوض بالدول العربية؟.
    اليوم المجتمعات العربية منقسمة الى تيارات فكرية عقائدية مختلفة .
    كيف نستطيع ان نجمع هذه الاِتجاهات المختلفة في اتجاه واحد الذي يصب في بناء الدولة النهضوية.
    لننهض يجب أن نجد المقصد الكلي للديمقراطية نجمع به الفرقاء.لننطلق جميعا صوب الوثبة الحضارية.

  • الجزائرية

    قامت الثورة الفرنسية على أفكار روسو في عقده الإجتماعي،و مونتيسكيو في فصل السلطات وغيرهم من مفكري تلك الحقبة التي مهدت لقيام الجمهورية و ثورات 30و48من القرن 19.لتحريرأوربا من الإقطاع والملكية المطلقة فوجد السياسيون أرضية العمل لبناء الديمقراطيات و الدولة الوطنية الحديثة..أما عندنا فالمثقف يركض وراء السياسي هذا الأخير يطرح مشروعه ويزكيه المثقف ..إن انبطاح نخبنا و جبنهم هو ما أبعد السياسي على بناء مشاريع وطنية جادة فلا نرى الواحد منهم إلا متملقا لمنصب أوكتابة مذكرات . أو سجالات فارغة ...

  • مخلوف

    وبدل أن يكون الحوار الداخلي بيننا هو أساس حل هذا الإشكال اتّجه الفصيل الأقوى ـ من موقع السلطةـ آنذاك إلى إقصاء الفصيل الأضعف،
    ماذا عسانا فعله إذا وأصحاب الرؤية الواضحة خارج الفصيل الأقوى من موقع السلطة ؟ أم المسألة هي في ترجمة هذه المفاهيم إلى برامج تربوية وسياسية واجتماعية وإعلامية وثقافية واقتصادية تجسد هذه الرؤية الأصيلة في واقع مليئ بالتناقضات والإفرازات والتشنجات والتجاذبات والشطحات والنزوات والشهوات و.و.و.و.و.و. لأنه في اعتقادي الواجب الأول هو إحداث الوعي بالذات الفردية والجماعية .