ثورات غريبة
أهم ما أصبح يلفت الانتباه في الثورات العربية أو ما يسمى بثورات الربيع العربي التي جرت والتي لاتزال تجري هنا وهناك هو مواقفها الغامضة والغائبة في كثير من الأحيان، سواء تجاه مستقبل هذه البلدان وشعوبها من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أو من ناحية السياسات التي يجب أن تنتهج بخصوص القضية الفلسطينية وسياسة الإبادة التي تمارسها الدولة العبرية ضد الشعب الفلسطيني وبقية الشعوب والدول العربية الأخرى.
-
وبالنسبة للقضية الأولى، فإن أيا من الثورات العربية بما فيها الثورة التونسية والثورة المصرية اللتين باغتتا العالم ونجتا بالتالي من الفشل وما كان يمكن أن تفعل بهما إسرائيل والدول الغربية مثل ما تفعله اليوم بليبيا واليمن وسوريا، أيا من هذه الثورات لم تكشف بعد عن برنامج حقيقي للبناء السياسي والاقتصادي على الأقل ولا تزال محصورة في الشعارات المرفوعة في البداية من شاكلة إسقاط النظام ورحيل النظام ومحاكمة النظام دون تحقيق شيء حاسم في هذا المجال، مما قد يسمح في القريب العاجل بالتفاف الأنظمة القديمة على هذه الثورات أو السقوط في براثن أنظمة وأشخاص تريدهم إسرائيل والدول الغربية لحكم البلدان العربية، وهذا هو المخطط الجاري تنفيده بالنسبة لتونس ومصر فيما تتولى القوى الغربية وإسرائيل أمور الثورات الجارية سواء بحماية الأنظمة القائمة من السقوط تحت ضغوط الشعوب مثلما هو الشأن بالنسبة لليمن والبحرين والأردن أو تبنى الثورات واحتوائها بدعوى مساندتها من أجل الإبقاء على نفوذها وحماية مصالحها ومصالح الكيان الصهيوني، وهذا هو الشأن بالنسبة لليبيا حاليا، حيث الرهانات الجيوستراتيجية والنفطية كبيرة ومعقدة مما دعا دول الغرب وإسرائيل إلى اختلاق ثورة غريبة تجسد نظرية “القابلية للاستعمار” بالعمل ضد مصالح الشعب وتدعو من تلقاء نفسها حلف الناتو والقوى الاستعمارية القديمة إلى تدمير أرضها وشعبها واحتلاله وجعله في وضع العراق وأفغانستان والصومال، وأكثر من ذلك تمارس الكذب والتضليل الاعلامي بمساعدة قنوات فضائية عربية، كان يعتقد إلى وقت القريب، أنها حاملة لواء الدفاع عن المصالح العربية والشرف العربي والكرامة العربية، من أجل تأليب هذه القوى الغاشمة على جيران لها وتتهمهم بمساعدة النظام الليبي بالمرتزقة والسلاح ولا ذنب لهؤلاء الجيران سوى أنهم لا يريدون التدخل في الشؤون الداخلية للغير ويأبون تلطيخ أيديهم بدماء الأبرياء مثلما هي ملطخة أيديهم وأيدي أمريكا وإنجلترا وفرنسا.
-
وبالنسبة للقضية الثانية فإن المبدأ والأساس هو أن هذه الثورات قد قامت ضد أنظمة عميلة في مجملها للكيان الصهيوني والدولة العبرية في سياستها التقتيلية ضد الشعب الفلسطيني وتهويد مقدساته وحضارته وفي مواقفها العدوانية التوسعية ضد جميع الدول والشعوب العربية. إسرائيل نفسها فهمت سياق الثورات العربية ومغزاها وطالما عبرت عن قلقها وتخوفها من هذه الثورات وما يمكن أن تحمله من تغيير في المواقف العربية تجاهها باعتبارها العدو رقم واحد للعالم العربي، ولكن بدل أن تجسد الثورات العربية هذه التخوفات باتخاذ مواقف صارمة من العلاقات مع إسرائيل والتلميح على الأقل إلى مراجعة الاتفاقيات الثنائية مع هذا الكيان خاصة بالنسبة لمصر، فإن هذه الثورات ظلت في عنق الزجاجة ولم تقو حتى على بلورة مواقف واضحة ضد ما تفعله الآلة العبرية يوميا بالشعب الفلسطيني في غزة. بل وأكثر من ذلك ذهب بعض القوى السياسية التي تدّعي أنها جزء من الثورة في اتجاه طمأنة إسرائيل على نفسها من امتدادات الثورة كما هو شأن بعض الأحزاب التي تدّعي الديمقراطية والاخوان المسلمين في كل من مصر وسوريا، في حين أن المستقبل السياسي والاقتصادي المستقل للشعوب العربية ورفضها للكيان الصهيوني الذي يرهن هذا المستقبل وسياسته العدوانية التوسعية، هي القضايا التي ضحى ويضحي من أجلها الآلاف من أبناء العرب في هذه الثورات.