-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

جبهة التحرير الوطني.. إلى أين؟

لمباركية نوّار
  • 1144
  • 4
جبهة التحرير الوطني.. إلى أين؟

لا تنقدح الأسئلة السياسية الشائكة في الأذهان، ولا تلهب الأعصاب إلا في الأوقات الحرجة وفي منعطفات السير المحفوفة بالمخاطر والمحاطة بالمهالك. ويختلف السؤال السياسي المثير عن شقيقه السؤال العابر في صوغه وفي بلاغة موضوعه؛ فالأول يأتي ملتفعا بشفوف الإثارة ومعفرا برذاذ التحريض، وموقظا للقدرات العقلية، ومجندا لها، وحاثا لعناصرها على الاشتغال والبحث. بينما يقتات الثاني في جمع ذرات إجابته من الجاهز المتوفر الذي لا يُبذل معه جهد مجهد، ولا تُلتهم معه طاقة مخزّنة. والسؤال، في كل الأحوال، لا يكون سؤالا إلا إذا كان محرِّرا للفعل الذهني الوثاب الكامن.

إن سؤالا مثل سؤال: (جهة التحرير الوطني.. إلى أين؟) هو سؤالٌ متجدد، فقد طرحه المفكر الأستاذ عبد الحميد مهري، رحمه الله، منذ ما يزيد عن عقد ونصف العقد من الزمن يوم أناخت المصائب على حزبه، وناءت بكلكلها في ليل مدلهمّ ومحاصَر بالاحتقان السياسي. واليوم، يعيد الملاحظون المهتمون بالشأن السياسي والمناضلون الأوفياء النزهاء، طرحَ السؤال ذاته وبقدر أعظم من الإلحاح والإصرار. وعندما يتكرر نفس السؤال على أزمنة متباعدة فمعنى ذلك أن الموضوع الذي يتناوله هو أقرب إلى المرض المقلق العويص.

افتتح المفكر الأستاذ عبد الحميد مهري رحمه الله مقاله في الرد عن السؤال المطروح بسطور قليلة فيها إيحاء بأن جبهة التحرير الوطني لم تستكمل رسالتها، وأنها ما تزال قادرة على العطاء، فقال: (جبهة التحرير الوطني دخلت التاريخ من بابه الواسع؛ لأنها استطاعت جمع القوى السياسية الجزائرية، على اختلاف اتجاهاتها ومناهلها الثقافية والفكرية، على صعيد واحد لتحرير البلاد من الاستعمار الفرنسي. وانتصرت في هذه المعركة الكبرى، واختزنت منها رصيدا تاريخيا ضخما، وتجربة سياسية عميقة).

منذ الانفتاح السياسي، عانت جبهة التحرير الوطني من سهام التجريح الحادة ومن سكاكين التهجُّم المشحوذة والمسمومة تحت غطاء النقد والتقويم. بيد أنها استطاعت أن تقف في شموخ وصمود أمام كل العواصف العاتية التي هبَّت عليها، وأن تردَّ ضربات المعتدين إلى نحور أصحابها خائبة حسيرة، وخاصة في الفترة التي تولى فيها الأستاذ عبد الحميد مهري رئاسة أمانتها العامة، وهي الفترة التي كانت امتدادا حقيقيا لعمرها أثناء سنوات الثورة التحريرية.

أراد الأستاذ عبد الحميد مهري، رغم الجو المشحون السائد في زمنه، أن يقطع الحبل السُّرِّي الذي يربط حزب جبهة التحرير بالسلطة حتى لا يحكم باسمها، ولا تكون برقعا تغطي به سياساتها أو سندا تبريريا فيها، وأن يضع حدا للتماهي بين الطرفين خدمة للديمقراطية التي لا تقوم سوى على أحزاب تكون سيدة نفسها ومستقلة في قراراتها. إلا أن أطرافا عديدة، أوقفت محاولته الجريئة بعملية مخزية سميت بـ”المؤامرة العلمية”. ولما أراد الأستاذ علي بن فليس أن يعيد الكرَّة وفق منظور صريح وخفاق، وتذرَّع بشعار: “لا وصاية على حزب جبهة التحرير الوطني”، وعمل على إشاعة التشبيب وضخّ دم جديد في عروقه، انزعجت أطراف، وحركت آلة “عدالة الليل”، وزرعت في طريقه العواثير.

بخطة إبليسية محكمة، أبعِد مناضلو حزب جبهة التحرير من مواقع رسم سياساته، وأصبح الأمناء العامون للحزب يعيَّنون بقرارات فوقية غامضة المصدر. وجاءت مرحلة القطيعة الفعلية بين الحزب ومناضليه الحقيقيين، وانحرف العمل النضالي إلى استعمال العنف وسيلةً للمغالبة الداخلية. ومن بعد ذلك، أصبح المال السياسي العفن هو معيار الفصل الأمثل في تولي المناصب الانتخابية في كل المستويات، ورافقه نزف وفراق للأصلاء من جهة، وثراء فاحش لأقلية متسللة من جهة أخرى. وحل زمنٌ عابس مكفهر، تعاقب فيه على تسيير الحزب أشخاص لا هموم تشغلهم سوى المبايعات العمياء للسياسات العرجاء. وكانت من أولى النتائج من بعد الهبَّة الشعبية المباركة هي أن يساق من كانوا على رأس قيادة حزب جبهة التحرير في غياهب السجون، أو أن يفروا إلى خارج الوطن بلا أمل في العودة الطوعية. وفي غبار هذه الظروف، خلا الجو أكثر لبعض الانتهازيين المتستِّرين والمتلوِّنين من فاقدي القيم الأخلاقية ولقناصي الفرص، وتحالفوا فيما بينهم قمة وقاعدة لتخريب الحزب من الداخل كما تفعل حشرة الأِرَضة بالخشب، وقطع صلته بمناضليه ومحبيه والمتعاطفين معه، وأوقفوه على شفير الهلاك. وعانى حزب الشهداء الكرام من ظاهرة “التحلل الذاتي” التي أصابته بنزف وقعود. و”التحلل الذاتي L’autolyse”، لمن لا يعرفه، هو ظاهرة بيولوجية مَرَضية تفضي إلى هلاك بعض خلايا الجسم بسبب أنزيماتها التي تهاجمها، وتقضي على كل مظاهر الحياة فيها.

للأسف، لم يتعلم القائمون على شؤون الحزب من دروس الماضي القريب، ولم يكونوا على درجة كافية من النباهة تجعلهم يغيِّرون منهج التعامل مع الأحداث بما يخلّص الحزب من أمراضه وأدرانه وعلله. ووصل التغاضي والإهمال إلى غضّ طرف العين على قوائم الحزب الأولى للانتخابات القادمة في عددٍ من الولايات. ولما تحرَّكت أدوات الرقابة، لم تنجُ معظم هذه القوائم من مقصِّ التقليم والبتر، وأسقط عدد من العوالق بعد أن ذاعت أخبار ترشحها سقوطا مفضوحا، وأحدثت أصواتا مدوية.

بسبب سياسة: “إما نحن، أو الخراب” حُرم حزب جبهة التحرير الوطني من المشاركة في الانتخابات القادمة في عقر عرينه الأول ولاية باتنة عاصمة الأوراس، فهل قدّر من تسببوا في هذه الانتكاسة مقدار الحسرة التي غمرت قلوب محبي الحزب؟. إنها خسارة في درجة النكبة التي ستظل مدوَّنة في سجل تاريخه كنقطة سوداء، وسيتحمل وزرَها من كانوا سببا فيها.

تصنع الأفكار النيرة توجهات الأحزاب وترسم خطوط تقدمها، والأفكار البناءة هي وحدها من تنعش الحياة الحزبية الديمقراطية. ولا تكون المنافسة بين الأحزاب إلا فيما تطرحه من أفكار جريئة، وما تبتكره من حلول عملية لكل المشكلات المجتمعية. ولا ينتج الأفكارَ إلا المفكرون الأفذاذ الذين يُحسنون النظر إلى الوقائع في أرضها بعين مُدركة وعقل ناعم يحسن التحليل والتعليل. ولا يُنتظر أن تأتي من ذوي العقول القاحلة الشبيهة بالأراضي البور التي لا تصلح للزراعة. وعندما تشكو النُّهى من عجز ويُبوسة وجفاف، فإنها تلتفّ في عرج أعوج صوب الخرائف والشعوذات والخزعبلات والتفاهات معتقدة بأنها جاءت بما لم تأت به الأوائل، ورمت بما لم يخطر على بال الفطاحل أبدا. فقد جاء على جبهة التحرير الوطني حينٌ من الدهر الكئيب المبكي، أصبحت فيها أحاديث من تولّوا زمام أمورها في كل لقاء مبعثا لضجيج الضحك والسخرية والاستهزاء، ووسيلة للتنكيت والتندر نتيجة البؤس الفكري المتدني. وفي المدة الأخيرة، علا صوتٌ أتى برأي خائر ومحبِط مؤداه تأويل الرقم الذي مُنح لقوائم حزب جبهة التحرير في الانتخابات القادمة، وهو الرقم سبعة تأويلا أبله، وكم كانت هذه القراءة سخيفة ومخيِّبة للظنون في مناخ احتدم فيه التنافس. وأتبعت هذه القراءة باعتقاد منحطّ ومحنَّط لا يقنع حتى الأطفال الصغار، فكيف ينتظر أن ينزل الانتصار الوهمي المرتقب كهدية من السماء؟. وسرى هذا التأويل الفجّ بين الناس مسرى النكتة السمجة التي لم تكسب إعجابهم ولم تنل رضاهم.

يعيش حزب جبهة التحرير الوطني، ومنذ مدة، أزمة فكرية عويصة أبعدته عن المنافسة السياسية والمبارزة الميدانية، وجعلت مساحته الحضورية في المشهد السياسي تزداد انكماشا وعجزا وتدهورا. وهو الآن يقف كالتائه في مفترق الطرق لا يعرف لنفسه وجهة يوليها. ولكن، ورغم المآسي فإن رجاءً باسما ومفعما بالأمل المسقي بدماء الشهداء الطاهرة ينبِّئ بقرب لحظة مغادرة القرصان صهوته التي تشبه البرج الشامخ، ويذهبوا في سبيلهم تاركين شأنه لفرسان يحفظون عهود رجاله الأوفياء الخلّص حتى يستمروا في حمل رسالته وتحقيق بقية أهدافه التي صيغت في بيان أول نوفمبر.

حتى وإن عمدوا إلى ترذيل وتخسيس حزب جبهة التحرير الوطني، فلن تكون نهايته جثوما على ركبتيه في ركن من أركان أي متحف، كما يتوهم المتوهمون ويتمنى الحاقدون على منجزه التاريخي الذهبي؛ لأن الذي وُلد لتحرير الجزائر لا أحد يستطيع إطفاء وهج شعلته، وتعطيله عن إكمال مسيرته.

هناك وجه شبه بين الأفكار الصلبة والأشجار المعمِّرة، والفكرة الصائبة لا ينتهي أجلُها برحيل صاحبها، ولذا وددتُ أن اختم سطوري بهذه الكلمات التي كتبها الأستاذ عبد الحميد مهري، رحمه الله، في مقاله المذكور منذ البداية، وفيها يقول: (إن بقاء جبهة التحرير الوطني قوّةً فاعلة في الساحة السياسية مرهونٌ بتجديد رسالتها. والخطوة الأولى في هذا الطريق يمكن أن تتمثل في فتح نقاش حرّ وعميق بين مناضلي جبهة التحرير وأنصارها). والتجديد المقصود في هذا الاقتباس ليس مجرّد لفظة منزوعة المعاني تُكتب على يافطة، ومن بعد ذلك تُحمل أو تردَّد كشعار مجرّد أجوف، وإنما هو التجديد الفكري أولا وأخيرا، بداية ونهاية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • العربي

    الى مزبلة التاريخ. المقصود ما يسمى بجزب جبهة التحرير.

  • خليفة

    حزب جبهة التحرير ،في عهد العصابة امتطى صهوته اناس انتهازيون جندوا هذا الحزب و مناضليه لخدمة مصالحهم الخاصة ،و هذا الانحراف في مسار الحزب هو الذي جعل الكثير من الناس يدعو الى وضع هذا الحزب في المتحف.و لا يمكن لهذا الحزب ان يستعيد عافيته و يسترجع مصداقيته الا اذا وجد رجالا مخلصين و نزهاء،يقودونه الى بر الامان ،و ليكون اداة فعالة في خدمة الشعب.

  • بوكي لخضر

    جبهة التحرير الوطني.. إلى أين؟ قلنا إلى المتحف معززة مكرمة وبعيدة عن التسييس والتحزيب الضيق والنهب فرفضتم إذن نقول إلى جهنم وبئس المصير. وجب التنويه إلى أنني أتحدث عن الحالية وليس عن الثورية التاريخية التي هي ملكنا جميعا دون استثناء ونبجلها ونفتديها كما افتدتنا بالأمس.

  • عمار معاش

    جبهة التخريب الوطني سقط عنها القناع وبانت علي حقيقتها الماكرة والخبيثة وبات جليا لكل العالم جرمها ومساندتها من قبل للعصابة مع حزب الارندي . جبهة التخريب الوطني في عهد بوتفليقة ساهمت وساعدت علي تهريب ونهب وسرقة وتحويل اموال الشعب الجزائري الي بنوك اوروبا وامريكا من طرف العصابة . جبهة التخريب الوطني وحزب الارندي وهما اللذان كانا يمثلان الاغلبية بالبرلمانات السابقة طيلة 20 سنة رفضا مرارا وتكرارا تمريرقانون تجريم الاستعمار الفرنسي وهذه خيانة كبري بحق الشهداء والثورة والشعب والجزائر . بينما البرلمان الفرنسي اصدر سنة 2005م قانونا يمجد الاستعمار الفرنسي بالجزائر ويعيد الاعتبار للحركي الخائن الشاه مات يا جبهة ىالتخريب