-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

جرائم ثقافية في مدينة آفلى

التهامي مجوري
  • 827
  • 1
جرائم ثقافية في مدينة آفلى

لأول مرة يعلق بذهني إسم مدينة “آفلو” عندما قرت مذكرات مالك بن نبي رحمه الله “مذكرات شاهد القرن”، قبل أربعين سنة، ولا أدري لماذا سكن هذا الإسم مخيلتي؟ ولا كيف سكن دون غيره من المدن؟ بل ويكن يعني لي ذلك شيئا، وكما قال بن نبي عندما عين موظفا يمحكمتها، “كانت لي لآفلو رحلة نحو تمكتو”.

وازداد هذا اسم هذه المدينة رسوخا عندما زرتها منذ حوالي عشر سنوات بمناسبة رمضانية في فصل الصيف، كنت فيها في مدينة الأغواط، وعندما شددنا الرحال إليها قبل المغرب لتناول الإفطار هناك، قيل لنا نحن الزوار: “البسوا الحال بارد”، فقلت في نفسي وأي برد سيكون في هذه المنطقة التي لا تبعد اكثر مائة كيلو متر؟ فلم ألبس شيئا غير العباءة التي كنت اتجول بها في الأغواط… ولما جاء الليل هجم معه البرد علينا، بدأت ارتعش وأسناني تصطك، وكأننا في فصل الشتاء، ولولا وجودي بين الناس في مكان مكتظ لأصابني ما يصيب المرء في برد الشتاء…

كانت الزيارة هذه المرة بدعوة من الأخ الأستاذ الطيب ورنيد، لإلقاء محاضرة تعريفية بمشروع صناعة الوعي الذي اشتغل عليه منذ سنوات، وكان ذلك يوم السبت 22 ماي 2021، وكان مفترضا أن يحتضن هذا النشاط النادي الأدبي الذي أسسه مجموعة من الأساتذة الجامعيين.

ولكن لما وصلت مساء الجمعة 21 ماي إلى آفلو، فوجئت بإلغاء النشاط بسبب تزامنه مع انطلاق الحملة الإنتخابية الذي يمنع التجمعات وجميع الأنشطة غير المتعلقة بالحملة الإنتخابية، فيحظر كل تجمع أو نشاط موازي خارج هذه المناسبة…، فقرر الإخوة المستقبلين أن يكون لقاء مصغرا مع مجموعة من الأساتذة، في ضيافة الأستاذ سي الطيب، والإخوة المستقبلون هم: الاستاذ الامام عبد عبد الرحمان ورنيد ابن سي الطيب، والدكتور بن حسين محمد الامين، والحاج الشيخ خرباش رجل اعمال وهو من اعيان مدينة افلو، والاستاذ دنداني لعرج رئيس النادي الأدبي والفكري جبال عمور افلو، واحسن لعوطي، توفيق لعوطي والأخ جلول صديق صاحب الدار عضو جمعية العلماء…، وكذلك كان اللقاء، وكان الكرم وحفاوة الترحيب، فقد ذكرني ما رأيت من الأخ الطيب ومن معه من الإخوة الذين استقبلوني، ما كتب منذ ما يقارب القرن وقرأته في مذكرات شاهد القرن للأستاذ مالك بن نبي رحمه، ورغم أنني زرت آفلو قبل اليوم مرتين، فلم تكن غريبة عني في شكلها وطبيعة أهلها، إلا أن الجديد هذه المرة هو الجولة التي قمت بها رفقة الأخ الطيب الذي أصر على ألا نغادر قبل الغداء وقضينا الصبيحة في جولة استطلاعية للمدينة وأهم الجهات التي حفرت في الذاكرة ولم يسبق لي أن رأيتها.وأهم هذه المرافق التي أحببت زيارتها البيت الذي كان يسكنه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الذي كان منفاه في أربعينيات القرن الماضي، عندما نفته فرنسا مع بداية الحرب العالمية الثانية، وبيت مالك بن نبي الذي سكنه عندما كان يشتغل في المحكمة مع القاضي بن عزوز…، ولكن خزانة الأخ الطيب الذهنية كانت أكبر واوسع مما طلبت، حيث قادنا انا ومن معي ابني أسامة وأبن أخي إبراهيم، إلى الكثير من الأماكن والمواقع التي لها علاقة بالنهضة والنشاط الثقافي والإصلاح في آفلو.

كانت البداية بزيارة “مكتبة جبل عمور” لصاحبها الحاج لعرج لعوطي، والد الأخوين اللذين حضرا معنا اللقاء ببيت سي الطيب؛ بل إن أحدهما كان في استقبالي مع الأستاذ الطيب، وهما: احسن وتوفيق لعوطي، وكانت زيارة هذه المكتبة بطلب مني؛ إذ شوقني لزيارتتها ما حدثني به عنها، أحد أبناء مؤسسها، الذي حدثنا عن المكتبة ومساهمتها في النهضة والصحوة، كما حدثني عن والده الذي أسس هذه المكتبة في 1967، وكان في ذلك يشبه الشاذ الذي يحفظ ولا يقاس عليه في البلدة، بسبب عدم اهتمام الناس بالكتاب والنشاط الثقافي النهضوي.

ورغم عدم اهتمام الناس بالكتاب والنشاط الثقافي النهضوي، كما قال لي ابن مؤسس “مكتبة جبل عمور”، لم يجد الوالد من ينفض عنه الغبار إلا الأستاذ الطيب، ويقصد الطيب ورنيد الذي نحن ضيوف عنده، فقد كان رحمه الله من محبي الكتاب والمطالعة، وذلك جره إلى إنشاء المكتبة، وبقيت المكتبة إلى اليوم، فشوقني لزيارتها، فزرتها وكانت مكتبة بالفعل عامرة.

وفي طريقنا إلى المكتبة مررنا بمقر البلدية الحالي الذي كان كنيسة، ومقر المحكمة في العهد الاستعماري، الذي تحول إلى محال تجارية وبيت البشري الإبراهيمي الذي بيع إلى احد المسؤولين بالبلدية، ولا أدري كيف نطقت بلفظة عندما كان الأستاذ الطيب يحكي لي هذه القصص، وهي قولي “هذه جرائم ثقافية”، وبالفعل هي جرائم، إذ أن كل هذه المرافق التي ذكرناها من المفروض انها مقار سياحية وثقافية؛ لأن لها قصص تاريخية مهمة…، لها علاقة بتاريخ البلاد وبالقيم الإنسانية الرفيعة، فمقر المبلدية الذي كان كنيسة المفروض أنه وقف لا يجوز تحويله عن مهمته العبادية، ولا أدري لماذا لم تتدخل وزارة الشؤون الدينية في الموضوع؛ لأنه من اختصاصها، وكذلك مقر المحكمة التي كان على رأسها رجل فاضل له ولعائلته حضور بارز في المنطقة وهو القاضي بن عزوز…، وكذلك كل المواقع التي استولت عليها مافيا العقار بطرقها المختلفة… ولكن يبدو أن القوم أنهم لا يهمهم التاريخ ولا تهتمهم السياحة ولا “فايدة لبلاد”.

لا يهمهم التاريخ لأنهم لا يعرفون معناه… وتهمهم الوقائع الوطنية والآثار ولا الثقافة!! لأنهم لا يشعرون بالانتماء إليها فيما أعتقد.

وحتى لو سلمنا جدلا أن القوم أرادوا –بدافع الوطنية- أن ينسوا الاستعمار ومخلفاته، فما بال الكنيسة، التي هي مكان عبادة، ومكان العبادة من المفروض لا يخرج عن إطاره الطبيعي، كأن تحول الكنيسة إلى مسجد او مدرسة قرآنية، لا أن تتحول إلى بلدية، والأكثر جرما ألا يحرك القطاع الديني ساكنا، وكأننا نريد التخلص من الكنيسة بأي ثمن ولو كانت على حساب حاجة العبادة نفسها… وإلا لماذا تحول الكنيسة إلى بلدية؟ ولا احد يقول اللهم إن هذا منكر…، لا شك ان العاطفة الدينية تشعرنا بأهمية التخلص من الكنيسة، ولكن هذه العاطفة بجموحها عن الحق، لا تشعرنا بقدسية العبادة واماكنها ولو كانت لغير المسلمين.

ومن غرائب الصدف التي مررت بها في جولتنا هذه، أننا مررنا بالمسجد العتيق ومكتوب عليه أنشئ في سنة  1902م، وقد شرع في بنائه سنة 1897، أي أن المسجد بني ودشن خلال خمس سنوات ومتى هذا؟ كان ذلك في سنة 1897 في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في ظل الاستعمار، استعمار يستعمرنا ويعترف لنا بالحق في العبادة، ومسؤولينا بعد الاستقلال لا يعيرون اهتماما لموروثات تاريخية تذكرنا بماضي نفخر به.

ومن عجائب الأقدار أيضا أن الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي في سنة 1999 أراد أن يزور البيت الذي قضى فيه شطرا من عمره، حرم من ذلك بحجة أن صاحب البيت يومها لم يكن هناك!!

يا سلام عن هذه الصدفة العجيبةٍ!!

أي قدر هذا الذي فرض على صاحب البيت الغياب؛ لأن الإبراهيمي سيكون ضيفا على آفلو الله أكبر، وكاني بالقوم اوحو إلى بعضهم بعدم السماح للرجل بزيارة أن البيت كان فيه حرمانا له، حتى لا يدخل في الحملة الانتخابية.. لسنة 1999. زرت المدرسة التي درس فيها الدكتور أحمد طالب والأماكن التي يجلس فيها الشيخ محمد البشري الإبراهيمي ورأيت بعض الأعيان الذين ربط معهم علاقات…إلخ.

ومن طرائف ما سمعت من أهل أفلو أن هناك شرذمة منذ القدم مثل “العصابة” وهي إلى اليوم لها حضوة عند الإدارة كما كانت لها عند الإدارة الاستعمارية، كانت مهمتها في ذلك الوقت ترتيب المقالب للشيخ الإبراهيمي والتشويش عليه والاستهزاء به والإيقاع بينه وبين أهل المنطقة التي اكرمته وقامت به أحسن قيام… فجاءته فئة منهم إلى وليمة كان بها وكان في الشارع… فقيل له أنت عالم وتأكل في الشارع؟ فقال لهم وهل يستحي الراعي من البقر؟

من يعرف سرعة البداهة عند الشيخ لا يستغرب مثل هذا الرد، ولكن لا يمكن أن يغيب عن الشيخ ان هذه العبارة تشمل كل من رآه على تلك الحال، ولذا يستبعد أن يقصد الشيخ عموم اهل آفلو، وإنما ربما قصد سائله الذي أراد إحراجه، او أنه لم يقل هذا الكلام أصلا وإنما أرادوا الإيقاع بينه وبين اهل البلدة التي اكرمته.

إن منطقة آفلو كنز من الكنوز الثقافية التي لم نعرف عنها إلا القليل جدا، وما يرتكب في حق هذه الكنوز من جرائم تستحق منا وقفة جادة لإيقاف مثل هذه المهازل التي تسببت فيها قياداتنا التي تسلمت البلاد بعد الاستقلال.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • مواطن

    رغم إهتمامك بأفلو وتحسرك عن ضياع وإهمال أشياء تراثية فيها ولكنك لم تفسر لنا معنى كلمة أفلو،إسم المدينة.