جمهورية ثانية في الأذهان والمؤسسات
بموازاة مع الجدل القائم هذه الأيام في الجزائر عن المدرب الوطني وأولوية المحلي على الأجنبي على مستوى الطاقم الفني واللاعبين، والجدل الدائر حول المشاورات السياسية التي تمت وجدواها من عدمه في غياب بعض الفاعلين وانعدام الثقة بيننا، يدور حديث وجدل موازٍ في الخفاء والعلن، في أوساط السياسيين والمثقفين وأوساط المواطنين العاديين عن الجمهورية الثانية التي ستقبل عليها الجزائر لا محالة اليوم أو غدا بعد انتهاء صلاحية الجمهورية الأولى التي دامت نصف قرن بإيجابياتها وسلبياتها، ورجالها ونسائها، ودمائها ودموعها، وأفراحها وإنجازاتها.
- وبعد كل الذي حدث من حراك سياسي واجتماعي وثقافي أفضى إلى اقتناع الجميع بضرورة التغيير، ليس فقط بسبب ما يدور من حولنا، ولكن لحاجتنا إلى مشروع جديد ووجوه جديدة ونفَس جديد لأن الجزائر ليست مملكة وليست مزرعة، ولم يضحي لأجلها أجدادنا وآبائنا لكي نبقى نتفرج عليها وهي تراوح مكانها، أو يعبث بها العابثون..
الجزائر وجدت لكي تؤثر وتتأثر وتتفاعل وتتغير وتتطور وتصنع التاريخ، ولا تزول بزوال الرجال أو تأكل أبناءها وتقتلهم أحياء، والجمهورية التي نسعى اليها حتى ولو لم تتضح معالمها بعد سيحتضنها الشعب اذا رميناها إلى الشارع مثلما احتضن ثورة التحرير ليتبناها ويثريها ويصنع منها جمهورية جديدة في الأذهان والمؤسسات تقوم على المبادئ والقيم والأخلاق قبل أن تكون جمهورية على الورق تنحصر في تغيير الدستور والقوانين أو تغيير بعض الوجوه بوجوه أخرى!!
– الشعب يريدها جمهورية ثانية تستخلص الدروس من الأولى ولا تنتقم منها ولا تحقد على رجالها ونسائها ولا تتنكر لجهودهم وانجازاتهم، وجمهورية ثانية دون دموع ودماء أو تكسير وتدمير، ولكن بأفكار وعرق وجهد الجميع دون إقصاء لفئة أو جهة بسبب انتماءاتها الحزبية والجهوية..
– الشعب يريدها جمهورية جزائرية ديمقراطية شعبية فعلية، لا شرقية ولا غربية، تزول فيها الجهوية والحڤرة، ويحترم فيها الغفير والوزير، والكبير والصغير والغني والفقير، وجمهورية قوية نخضع فيها كلنا للقانون الذي يعلو فيها الحق والعدل ولا يعلى عليهما..
– يريدها الشعب جمهورية ثانية يتحلى فيها أبناؤها بالأخلاق العالية ويقدس فيها الوطن والشعب والجهد والعمل ونفتخر ونعتز بها بين الأمم، ويذوب فيها الأشخاص والأسماء مهما كانت، ويكون فيها الشعب سيدا وليس خادما لشخصية أو فئة..
– يريدها جمهورية ثانية ينعم فيها أبناؤها بالحرية والعدالة الاجتماعية والعزة والكرامة (الفعلية) وتكافئ الفرص، ويشربون ويأكلون فيها الماء النقي واللقمة الحلال في كنف أسرة كريمة ومدرسة حديثة وجامعة متفتحة ومستشفيات متطورة ومؤسسات ديمقراطية منتجة وناجحة، واقتصاد متنوع لا يعتمد على الغاز والنفط فقط..
– الشعب يريدها جمهورية ثانية يعتز فيها أبناؤها بالانتماء إليها داخل الوطن وخارجه، ولا يفرِّون منها على متن قوارب الموت يأكلهم السمك ويتركون خلفهم أمهات يبكينهم ويحزن عليهم، ووطن في حاجة إلى سواعد كل أبنائه وبناته، وكل واحد منا يقوم فيها بواجباته ويحصل على حقوقه..
– نريدها جمهورية لا يحزن فيها أبناؤها بسبب خسارة مباراة في كرة القدم، ولا يصيبهم الغرور عند الفوز بأخرى، ويؤمنون بأن الحياة فوز وخسارة وليس هزيمة أو انتصار، وبأن الجزائر أكبر من فوز أو خسارة في مباراة كروية، وأكبر من كل كبير أو غني مهما كان..
– نريدها جمهورية نسكن إليها وننعم بخيراتها ونتقاسم متاعبها وعوائدها، ونخطط فيها للأجيال اللاحقة على مدى خمسين عاما وأكثر، وليس على مدى مخطط رباعي أو خماسي لا يساوي شيئا في حياة الشعوب، وجزائر يبنيها الرجال مع النساء والصغار مع الكبار والفقراء مع الأغنياء.
مهما اختلفنا في الكيفية والوسيلة والمشروع، والتقييم والتقدير فإننا لن نختلف في الغاية والمبتغى لأن الجمهورية الأولى انتهت صلاحيتها باتفاق الجميع ولا يمكن الاستمرار فيها، والجمهورية الثانية قادمة لا محالة دون حقد وكره أو قطرة دم تسيل بين أبنائها لأنها سالت بما فيه الكفاية في عهد الجمهورية الأولى التي سنبقى نذكر لمؤسسيها وصناعها جميل تحريرها وتشييدها، وسيعرف الجيل الجديد كيف يحافظ على مكتسباتها ويصحح أخطاءها لأنه متسلح بالعلم والإيمان وحب الوطن وتقديس العمل.
الجمهورية الثانية التي يدور بشأنها الحديث في الكواليس يجب أن تخرج إلى العلن ليثريها أبناء الشعب لأنها لن تكون سياسية ونظرية أو خيالية على الورق فقط، بل ستكون سياسية واقتصادية واجتماعية وتربوية وثقافية ورياضية، وستحمل مشروع مجتمع حديث يقتنع ويؤمن به كل الجزائريين، وتكون جمهورية ذهنيات متجددة ومؤسسات قوية، ولن تكون ملكية خاصة لأي كان مهما كان أصله وفصله وحسبه ونسبه أو المنطقة التي ينتمي إليها.
جمهورية ثانية جزائرية خالصة، ديمقراطية شعبية حقيقية دون ماكياج، وليست جمهورية واجهة وبزنسة يعبث بها الأنانيون والانتهازيون ثم يرمونها عظاما لشعب صبور وواع ومتفائل بمستقبل أفضل لبلد فيه رجال أوفياء ومخلصون سيشهد لهم التاريخ حرصهم على وطن ليس ككل الأوطان رغم الهزات والمؤامرات، وإثرها سيكتب التاريخ عن الجزائر مجددا لأن شعبها لا يرضى بالجمود والانكسار والفشل، ولن يرضى إلا بالجمهورية الثانية وسيلة لإحداث النقلة الفكرية والمؤسساتية النوعية التي يسعى إليها..