-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

جناية التخصص على المعرفة!!

التهامي مجوري
  • 531
  • 0
جناية التخصص على المعرفة!!

لا أحد يشكك في أهمية التخصص العلمي للإرتقاء بالدقة العلمية إلى منتهاها في أي مجال من المجالات العلمية؛ لأن التخصص في حد ذاته كلما تعمق صاحبه فيه ازداد تحكما في الموضوع محل الدراسة والبحث وتفاصيله.

ولكن هذه الأهمية قد تكون وبالا على العلم إذا ما زادت عن الحاجة والقدر المطلوبين، وأول ما يصادفنا في الكلام عن التخصص وأهميته هو: هل هو مطلوب لذاته حتى تتحقق الدقة المطلوبة في الموضوع؟ أم لأنه ساهم في ترقية المعرفة إلى درحاتها العليا؟ ومن ثم تحقق غايات الإنسان الخيِّرة.

لا شك أن المطلوب في كل ما يتعلق بالبحث والتطوير العلميين في النهاية هو الارتقاء بالمعرفة، وليست لمجرد الاهتمام بالتخصص لذاته؛ لأن التخصص مطية لترقية وتوسيع العلم محل التخصص، وذلك للمزيد من التحكم في الموضوع بما يعود على الإنسان بالخير، وإذا لم يتحقق شيء من توسيع العلم والمزيد من التحكم وتمكين الإنسان من النفع والخير، فإن في الأمر خلل، فيصبح التخصص معول هدم بدل أن يكون آلة ارتقاء.

على أن ما بين العلوم كلها شبكة من العلاقات، مثل شبكة العلاقة الإجتماعية تماما، ولكنها أخفى منها. فشبكة العلاقات الإجتماعية نشعر بضعفها وبفتورها وبتمزقها، عندما نلمس تفككا في الأسر والمجتمعات وغيرها من المجموعات البشرية، سواء بسبب الأنانيات التي تطغى على الأفراد أو بسبب اختلالات في تحلل الأفراد من الالتزامات تجاه الجماعة، أو بسبب موانع أخرى من خارج الإطار، أما بالنسبة لشبكة العلاقات بين العلوم فليست بهذا المستوى من الظهور والوضوح بحيث يدركها كل الناس.

وما يظهر الآن ولاحظه المشتغلون بالعلم والبحث العلمي، هو التباعد بين العلوم والهوة التي عمقت هذا التباعد، بحيث أصبح ما ينشؤه علم يحطمه العلم الآخر؛ بل إن علاقة افنسان نفسها بالعلم قد اهتزت بسبب الضعف والفتور والتمزيق الحاصل في العلاقات بين العلوم، التي تعود في أصولها إلى التوغل في التخصص المنفصل عن باقي العلوم، فتطورت التخصصات إلى مستويات عليا وراقية، ولكن تأثيراتها الجانبية في معظمها كانت سلبية على مصير الإنسان، يحكى عن آنشتاين أنه عندما تم تفجير القنبلة النووية تقيأ أو قال تقيأت، في حين ان المفترض في عالم نجح في اختراع أنه يفرح ويسر وليس يتقيأ.

لقد تقدمت علوم كثيرة وبقيت علوم أخرى متخلفة مقارنة بالعلوم المتقدمة، وهي كثيرة ايضل، وأظهر ما يكون ذلك في الفروق التي بين العلوم الكونية الطبيعية، والعلوم الإنسانية، أما علاقة هذين المجالين بالعلوم الدينية فلا يكاد يذكر لأن بعض الباحثير لا يعدون الدين من العلوم التي تساهم في ترقية الإنسان.

فنحن إذن أمام كليات علمية ثلاث وهي: كلية العلوم الكونية، وكلية العلوم الإنسانية، وكلية العلوم الشرعية.

فالمنظور الكوني أو الرؤية الكونية، يقتضيان تغطية جميع هذه الكليات العلمية؛ لأن هذه الكليات العلمية تخصصات متنوعة كل منها يغطي مجالا من مجالات حركة الإنسان وعلاقاته بالله والكون والحياة، ومن ثم فإن تطوير هذه التخصصات لا ينبغي أن يتخلف أحدها عن الآخر، فتطور العلوم الطبيعية إذا لم يكن مصحوبا بتطوير للعلوم الإنسانية، لا يكون تطورا نافعا ولو كان ناجحا نسبيا في بعض مناحي الحياة، وكذلك تخلف العلوم الشرعية عن العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية الكونية، حيث لا يمكن أن يحقق ما تتطلع إليه طبيعة الإنسان التواقة إلى السعادة والرحمة والبركة والطمأنينة .

لقد كان العلماء قديما، يتغلبون على هذه الإشكالات بالنشاط الموسوعي، أي أن الفيلسوف، هو الفقيه، وهو القاضي، وهو الطبيب، وهو الكيميائي، وهو اللغوي…إلخ، فعندما يتناول أية قضية سيجد بين يديه خريطة الإنسان بأبعاده كلها الدنيوية والأخروية، ومن ثم يهتدي إلى الموقف المناسب للإنسان في المجالات الثلاثة المذكورة –المادية، الإنسانية، الشرعية-.

وهؤلاء لم يكونوا غافلين عن أهمية التخصص، وإنما كانوا يوظفونه في إطاره، بحيث لا يسمحون له بتجاوز الغاية من الوجود الإنساني. “يحكى عن الفراء النحوي؛ أنه قال: من برع في علم واحد سهل عليه كل علم. فقال له محمد بن الحسن القاضي: فأنت قد برعت في علمك، فخذ مسألة أسألك عنها من غير علمك: ما تقول فيمن سها في صلاته, ثم سجد لسهوه فسها في سجوده أيضا؟ قال الفراء: لا شيء عليه. ققال محمد بن الحسن: وكيف؟ قال: لأن التصغير عندنا لا يصغر؛ فكذلك السهو في سجود السهو لا يسجد له؛ لأنه بمنزلة تصغير التصغير؛ فالسجود للسهو هو جبر للصلاة، والجبر لا يجبر، كما أن التصغير لا يصغر”، فقال القاضي: ما حسبت أن النساء يلدن مثلك” [الموافقات للشاطبي 1/117-118]… وفي اللغة عندنا قاعدة “نفي النفي إثبات”، وهو كذلك في الرياضيات ناقص مضروب في ناقص يساوي زائد [- x – = +].

والتكامل فيما بين العلوم لا يقف عند مراعاة العلاقة بين الكليات العلمية، فيما بين العلوم الكونية والعلوم الإنسانية والعلوم الشرعية، وإنما هي ضرورية أيضا فيما بين العلوم التي تتضمنها تلك الكليات العلمية، فعلمي النفس والإجتماع مثلا، إذا تقدم أحدهما عن الآخر يقع الخلل، فتقدم علم النفس عن علم الإجتماع يغلب النزعة الفردية على النزعة الجماعية، بحيث يعمل على تذويب الغايات الجماعية في مصلحة الفرد، فيترتب عن ذلك منطق البقاء للأقوى وهذا ما عليه اللبيرالية المتوحشة، والعكس في علم الإجتماع فإنه يغلب الجماعة على الفرد، بحيث يتم تذويب الفرديات في الجماعة فيقع الخلل؛ لكون الإبقاء على الفرد والجماعة معا ضرورة وجودية، وإذا تقدم أحد العِلْمين على حساب الآخر وتحول إلى ضرورة منهجية، فحاصل الأمر كارثة، لأن ذلك  ينعكس سلبا على علوم التربية التي من مهامها إحداث التوازن بين متطلبات الفرد ومتطلبات الجماعة، فيتعذر على التربية الوصول إلى المطلوب، كما تمتد السلبية على العلوم السياسية التي من مهامها الأساسية إدارة الشأن العام وفق تعاقد مسبق يجمع بين مصالح الفرد والجماعة، وكذلك لو أخذنا نموذج العلوم الكونية التي من المفترض انها أقل صدام فيما بينها بفضل دقتها وصرامتها، ولكنها تصطدم فيما بينها عندما يتقدم بعضها عن البعض الآخر، فعندما يتقدم علم الصيدلة، فإنه لا يكتفي بالقضاء على الأمراض، وإنما يتحول إلى تطوير صناعة الأوبئة ليتمكن من صنع الأدوية وتسويقها!! وكذلك في علم البيولوجيا الذي تطور تطورا مهما ومنه على وجه الخصوص علم الوراثة، في تلمس تحسين النوع ورعايته، ولكن بحكم الفصام الذي بين العلوم والقطيعة القائمة بينهما، اقتضت أن يتحول البحث إلى امكانية الاستغناء عن الكثير من القيم الإنسانية المتوارثة، في مثل فكرة الاستنساخ البشري، والتلقيح الاصطناعي الذي من ثماره الجنوح إلى الاستغناء عن الأسرة التقليدية وتعويضها بصيغة جديدة لها، والاكتفاء بتأجير الارحام استجابة لعاطفة الأمومة.

إن الوظيفية في الوجود الإنساني، والمهمة العلمية فيها، تقتضي أن تكون كل العلوم خادمة لهذا الإنسان في بنائه المعرفي، وفي حركته وفي بناء علاقاته، ولا يتسنى ذلك إلا بتلاحم بين العلوم كلها المقررة في الكليات الثلاث المذكورة آنفا؛ بل لا يُسْمح بابتعاد علم عن علم آخر إلا بمقدار وظيفي منضبط، وإلا وقع الخلل الذي تعاني منه الإنسانية اليوم.

إن البشرية اليوم رغم هذا التقدم العلمي الهائل، فإنها تعاني من تمزيق لشبكة علاقات العلوم فيما بينها، وانعكس ذلك على الحياة البشرية كلها، بسبب فصلها للعلوم عن بعضها البعض، أحيانا بحجة حياد العلوم تجاه الواقع الإنسان، وبحجة التخصص حينا آخر، وبحجة التطوير العلمي ثالثة…، وكل ذلك مرفوض؛ لأن العلوم وضعت لخدمة الإنسان، مثلما هي وظائف أعضائه في تحقيق حاجاته، فلو افترضنا تقدم علم من العلوم عن غيره منها في حياة الإنسانية، فكأنما سلمنا بجواز تطور بعض اعضاء الإنسان عن غيرها، كأن يكبر رأس المرء مع بقاء سائر جسمه، وتطول إحدى يديه وتبقى الأخرى، ويظهر الخلل جليا عندما نرى رجلا كبرت بطنه عن العادة…، ألا تلاحظون كيف يصبح شكله مستهجنا على الأقل من الجانب الجمالي؟ أما التأثيرات الجانبية الأخرى فحدث ولا حرج.

ولذلك اليوم كل العالم يبحث عن مخرج أطلق عليه فكرة “التكامل المعرفي”، الذي يعيد الأمور إلى نصابها، وإلا فإن قضايا الإنسان سوف تزداد سوءا يوما بعد يوم، لا سيما في ظل تقديس التخصص والتعلق بتلابيبه، رغم أن التخصص إذا لم يكن في إطار التكامل لن يكون إلا جناية على المعرفة وعلى الإنسان وغاياته عموما.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!