-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

جهود أبو القاسم سعد الله في بناء مدرسة التاريخ الجزائرية

جهود أبو القاسم سعد الله في بناء مدرسة التاريخ الجزائرية

إن تأسيس المدرسة التاريخية الجزائرية لا يمكن تحديده بالدقة نفسها التي نحدّد بها أحداثا أخرى كيوم إجراء الامتحان أو يوم الانتخاب مثلا (اليوم/ الشهر/ السنة)، بل هو سيرورة على امتداد مدة زمنية ليست قصيرة. وعليه فإن هذا التأسيس مهمة طويلة وشاقة، شاركت في الماضي وتشارك فيه حاليا أقلامُ أجيال عديدة في بناء صرحه، علما أن ذلك لم يكن حكرا على المؤرّخين فقط.

لا يختلف اثنان حول سموّ مكانة أبو القاسم سعد الله الرائدة في بناء المدرسة التاريخية الجزائرية في عصرنا الحالي، وليست هذه المرتبة العلمية السامقة منّة من أحد، أو مجاملة من المعجبين بقلمه، وإنما افتكّها بفضل جهوده العلمية التي لم تتوقف عند عتبة “التأريخ” أي جمع المادة التاريخية، بل تعمّق في دراستها وتحليلها ونقدها بالأدوات العلمية الأكاديمية بدون مجاملة، متجاوزا ثقافة المناقب السائدة في الماضي، والمتميّزة بتقديس المؤلفين والمؤلفات.

لقد ظهرت الفكرة الجنينية لهذه المدرسة خلال فترة الاحتلال الفرنسي، بنيّة مواجهة سياسة المسخ التي مارسها الاستعمار الفرنسي ضد الشخصية الجزائرية المتميّزة والمنتمية إلى وعاء الحضارة الإسلامية. وبعبارة أخرى فإن فكرة تأسيس مدرسة تاريخية جزائرية، لم تكن واردة في أذهان هؤلاء الكتّاب الرواد، إذ كان هاجسهم، وهم يكتبون تاريخنا بحقبه المختلفة قديمه وحديثه، هو شحذ الهمم وتعبئة الجزائريين في إطار المقاومة الشعبية ضد الاستعمار، لأن التاريخ هو ديوان الوطنية وقلبها النابض.

ويبدو أن اللبنة الأولى للكتابة التاريخية في عهد الاحتلال الفرنسي، قد وضعها حمدان خوجة، حين ألّف كتابه المشهور “المرآة” الذي هو في الأصل تقرير مفصّل قدّمه للبرلمان الفرنسي سنة 1833م، دفاعا عن وطنه الجريح، الذي عانى الأمرّين على أيدي العساكر الفرنسيين الذين لم يحترموا معاهدة الاستسلام التي وقعها الداي حسين  يوم 5 جويلية 1830، في محاولة منه لإنقاذ بلده من أنياب الاستعمار الفرنسي. ثم جاءت كتبٌ أخرى في النصف الأوّل من القرن العشرين، في إطار جهود رجالات الحركة الاصطلاحية، قصد إحداث “صحوة” هوياتية، قادرة على مواجهة سياسة الفرْنَسة الاستعمارية. أذكر منها على الخصوص:

  • تعريف الخلف برجال السلف، أبو القاسم الحفناوي، مطلع القرن العشرين.
  • تاريخ الزواوة، أبو يعلى الزواوي، 1920م، بدمشق.
  • تاريخ الجزائر قديمه حديثه، مبارك الميلي، 1928م، بالجزائر.
  • كتاب الجزائر، أحمد توفيق المدني، 1931م، بالجزائر.
  • تاريخ الجزائر العامّ، عبد الرحمن الجيلالي، 1954م، بالجزائر.

مفهوم المدرسة التاريخية الجزائرية

إن ما نعنيه بهذا المفهوم ليس بناء ماديا هيكليا، ولا مؤسسة تعليمية. كما لا نعني بهذا المفهوم أنماط المدارس التاريخية ذات التوجهات المنهجية والفلسفية المختلفة (المدرسة الإنسانوية/ المدرسة المادية الماركسية/ المدرسة العقلانية/ المدرسة الرومانطيقية/ المدرسة الوضعية/ المدرسة التاريخانية/ المدرسة البنيوية…)، إنما هو (أي مفهوم المدرسة التاريخية الجزائرية) مصطلحٌ ذو شحنة وطنية يُطلق على جهود الباحثين الذين جمعتهم فكرة الدفاع عن الشخصية الجزائرية وسيادتها في زمن الاستعمار الفرنسي، وتجمعهم حاليا في عهد الاستقلال فكرة التخلص من القراءة الاستعمارية لتاريخنا، وذلك بإعادة كتابته بطريقة موضوعية تعيد الاعتبار لأمجاد الجزائر، ولأقلامها التي ساهمت في بناء الحضارة الجزائرية بصفة خاصة، والحضارة الإنسانية بصفة عامة، دون تبخيس أو غمط  لجهود العاملين في شتى مجالات الثقافة والحضارة والمعرفة.

هكذا يتجلى لنا بوضوح أن المدرسة التاريخية الجزائرية تقف على طرف نقيض للمدرسة التاريخية الاستعمارية، التي حاولت طيلة وجودها في الجزائر محو الشخصية الجزائرية بكل أبعادها ومكوّناتها المتنوعة، لذا فمن واجبات المدرسة التاريخية الجزائرية، أن تسير على هدى قول الكاتب محمد الشريف ساحلي الذي دعا فيه إلى تصفية تاريخنا من القراءة الاستعمارية المشوِّهة لشخصيتنا. كما تهدف أيضا إلى قراءة تاريخنا قراءة وطنية موحِّدة تدعم اللّحمة الوطنية، وتبعدنا عن القراءة الشوفينية الانشطارية التي تهدّد وحدة الوطن.

تنوّع كتابات أبو القاسم سعد الله

  وفي بادئ ذي بدء، أودّ أن الفت انتباه القارئ، إلى أن فهم أفكار الدكتور أبو القاسم سعد الله يقتضي إدراك تنوّع كتاباته، فمنها الكتابة العلمية الأكاديمية، وهي الغالبة، والمتمثّلة في أبحاثه المتعلقة بتاريخ الجزائر. وهناك الكتابة الأدبية والمقالات الصحفية والحوارات التي عبّر فيها عن آرائه السياسية ومواقفه كإنسان إزاء قضايا عصره المختلفة.

والنوع الأوّل متميّزٌ بالمقاربة العلمية والطرح العقلاني، في حين تميّز النوع الثاني (المقالات والحوارات) بالتحرّر من قيد المنهجية العلمية الصارمة، فجاءت في أشكال تعبيرية مفعمة بالعاطفة المشحونة بقناعةٍ إيديولوجية، صدرت عن سعد الله المناضل من أجل القومية العربية، وليس عن أبو القاسم سعد المؤرخ. ولعل ما يؤكد ذلك أنه لم يتوان عن توصيف النوع الثاني من كتاباته بأسماء كثيرة ( أفكار جامحة/ الجدل الثقافي/ قضايا شائكة)، وفي ذلك تلميحٌ إلى كونها آراء شخصية وليس إلاّ. وعليه يجب أن يدرك القراء أن هناك أبو القاسم سعد الله الأديب، وهناك أبو القاسم سعد الله المؤرخ، ويقتضي واجب الإنصاف التمييز بين الصفتين المجتمعتين في شخصية واحدة، كما أنه من الوفاء للأمانة العلمية تفادي الخلط بين الموضوعين.

 لماذا لم يكتب أبو القاسم سعد الله تاريخ ثورة نوفمبر؟

من الجوانب الجديرة بالتوضيح في حياة أبو القاسم سعد الله العلمية، إحجامه عن الكتابة في أحداث ثورة نوفمبر 1954م، لعدم توّفر الشروط الموضوعية للكتابة عنها، فضلا عن أسباب أخرى علّق عليها بقوله: «وكثيرا ما سألني السائلون عن سبب عدم كتابة تاريخ الثورة، فكنتُ أسرع بالإجابة: ومتى كتبنا تاريخَنا الآخر حتى لم يبق إلاّ تاريخ الثورة؟ إن تاريخ الجزائر كلّه ما يزال غير مكتوب. وهذا ما جعلنا نتخبّط في التعرف على هويتنا وانتمائنا، وهذا الذي جعل الغير يجد أرضا بلا تاريخ مكتوب، فأخذ هو يكتب لملء الفراغ كما يهوى. وأوّل المتصدّرين لكتابة تاريخ الجزائر في جميع عصوره هم الفرنسيون، بحكم استعمارهم لبلادنا ومعرفتهم لتفاصيلنا، وطمعهم في الإبقاء على التأثير علينا، والمحافظة علينا في فلكهم. وكلّ ما نبديه حول هذه المدرسة الممتدّة الجذور والفروع (أعني المدرسة التاريخية الفرنسية التي ابتدأت بكتابات العسكريين والمستشرقين والكنسيّين، ثم امتدّت عبر الجامعيين والأكاديميّين في جامعة الجزائر، ثم انتقلت بعد الاستقلال إلى فرنسا نفسها لتُبقي على تأثيرها في شبابنا الذين يذهبون إلى هناك لتلقّي العلم والتّتلمذ.) هو المقاومة الشفوية والرفض العاطفي دون تقديم البديل لما تنتج.» (مقدمة كتاب الحركة الوطنية الجزائرية، الطبعة الثانية، 2005م، دار الغرب الإسلامي.)

 جهود أبو القاسم سعد الله في تأسيس مدرسة التاريخ الجزائرية

لا يختلف اثنان حول سموّ مكانة أبو القاسم سعد الله الرائدة في بناء المدرسة التاريخية الجزائرية في عصرنا الحالي، وليست هذه المرتبة العلمية السامقة منّة من أحد، أو مجاملة من المعجبين بقلمه، وإنما افتكّها بفضل جهوده العلمية التي لم تتوقف عند عتبة “التأريخ” أي جمع المادة التاريخية، بل تعمّق في دراستها وتحليلها ونقدها بالأدوات العلمية الأكاديمية بدون مجاملة، متجاوزا ثقافة المناقب السائدة في الماضي، والمتميّزة بتقديس المؤلفين والمؤلفات. وبفضل هذا التفكير العلمي نجح الدكتور أبو القاسم سعد الله، في الغوص والنفاذ إلى “روح التاريخ”، مستخلصا العِبَر من تفاصيله وجزئياته، المنجبة لـ”الوعي التاريخي” الضروري لنهضة الأمم والشعوب.

هذا ومن فتوحاته العلمية أنه أدرك أهمية “الذات الثقافية” في صيانة الأمة من الذوبان والانصهار في الآخر مهما كانت قوته الحضارية، فالحفاظ على الثقافة الوطنية بكل أبعادها، هو صمّام الأمان في أوقات الشدّة كما حدث لنا نحن الجزائريين في زمن الاحتلال الفرنسي.

ورغم علوّ كعب المؤرخ أبو القاسم سعد الله في بناء أسس مدرسة التاريخ الجزائرية، فإنه لم يدَّع الكمال، فهو القائل سنة 1979م في مقدمة الطبعة الأولى لكتاب “تاريخ الجزائر الثقافي”: «…أمّا أنا فحسبي أن أقول إنني جمعت لهذا الموضوع ما استطعت من المواد قرابة ربع قرن، ثم عكفتُ على دراستها ومقارنتها وتمحيصها، ثم صُغتها، فجاء منها هذا الكتاب. ولا شك أن عملا يغطّي هذا المدى التاريخي الواسع، وفي هذا الحجم، لا يمكن أن يسلم من الفراغات والهفوات، ولكنّي سأظل ما دمتُ حيّا عاكفا على تنقيحه وتهذيبه، من المجهود الشخصي ومن تنبيهات واقتراحات الباحثين. ذلك أن البحث لا ينتهي بصدور الكتاب، كما أن الكتاب لا يمكن أن يظل محتجبا في انتظار الانتهاء من البحث، لأن البحث كنهر الحياة لا ينتهي.».

1/2 يتبع.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!