الرأي

حتى العلماء إرهابيون؟

التهامي مجوري
  • 4915
  • 18

إن ما صدر في حق العلماء هذه الأيام وقبلها، من تحريض وتحريش وتضييق وتهديد وقمع، يعبر عن طبيعة انظمة بائدة، معرضة للسقوط والزوال، اكثر منه إدانة لأولئك العلماء الذين قد نختلف معهم، في بعض مواقفهم السياسية أو الشرعية، إذ مهما كانت أخطاؤهم –إن كانت لهم أخطاء- لا يمكن ان تضعهم في موقع المجرمين الذين يجب ان يطاردوا عالميا..،أو تثوَّر عليهم الجماهير، أو يسجنوا أو يقتلوا، ولكن ماذا نفعل مع قوم ضاعت من بينهم حرمة العلم والعلماء.

إن وصف اتحاد العلماء بالمنظمة الإرهابية، أو تحريض الأنتربول على الشيخ القرضاوي، او منع الشيخ سلمان العودة من الخروج من بلاده، أو سجن الشيخ محمد العريفي، أو منع طارق سويدان من دخول بعض البلاد الإسلامية، أو إدانة عدنان إبراهيم في اجتهاداته، أو خنق شيوخ جماعة الإخوان المسلمين، من الأزهريين والجامعيين وغيرهم، لا يعني إلا شيئا واحدا، هو تجريد الأمة من منابرها الحرة، في الدفاع عن حقها في الحرية والعدل والحياة، المتمثل في الخطاب العلمائي الحر والمستقل عن هذه الأنظمة المستبدة التي تحكم العالم العربي والإسلامي باسم شعوبه المغلوبة.

إن هذه الطائفة من العلماء وغيرها كثير، التي أدانتها جهات سياسية معينة، التقت مصالحها على مشاريع، لا علاقة لها بمصالح الأمة العاجلة والآجلة، تمثل المنابر الشعبية التي لا تمت بصلة للأنظمة القائمة في العالم الإسلامي، وإنما بوصلتها الحقيقية هي النهوض بالأمة لاستكمال استقلالها عن الغرب المتغطرس.

وإذا كنت لا أستغرب، التضييق على العودة والعريفي وسويدان وعدنان إبراهيم، فقد ضيق على الكثير من العلماء ممن كانوا في سنهم، وذلك من طبيعة الأنظمة الفاسدة التي لا تقبل بمن يفسد عليها نشوتها في التمتع بالحكم، لا سيما إذا وجدت هذه الأنظمة من يزمر لها ويطلب من علماء السلطان. فقد ضيق على الشيخ محمد الغزالي وعلى شيوخ الجزائر أحمد سحنون ومصباح حويذق؛ بل إن الشيخ عبد اللطيف سلطاني توفي في الإقامة الجبرية وغير هؤلاء كثير في العالم الإسلامي ممن هجروا وأرغموا على العيش خارج بلادهم.

ولكن ما يدعو للإستغراب، هذه الهجمة الشرسة على الشيخ القرضاوي، التي ملأت الدنيا تشويها لسمعته وتحريضا عليه، وعلى مساره والتشكيك في إخلاصه لدينيه وأمته.

فالشيخ القرضاوي، الذي قضى حوالي سبعين سنة في الدعوة إلى الله، متنقلا بين المساجد والجامعات والمراكز، خطيبا ومدرسا ومحاضرا وباحثا مؤلفا، في جو من الضغط النفسي والسجن والتعذيب والمطاردة، إلى أن انتهى به المطاف منفيا نفيا اختياريا في قطر، يوم كانت قطر تشبه قرية من قرى مصر.. هذا الرجل وبعد هذا العمر الطويل من العطاء للأمة، وأي عطاء؟ فقها وعلما وأسلوبا في الدعوة والوسطية الفاعلة المنتجة، تجازيه الأمة بتحريش الغرب عليه؟ لم يكف القوم تثوير الناس عليه، بسبب بعض مواقفه او تصرفاته، التي أسوأ ما يمكن ان توصف به، انها أمورا شحصية أو اجتهادية.

ولم يكتف القوم بتحريض بعض الدول عليه حتى أصبح ممنوعا، من دخول الكثير من بلاد العالم، ومنها الغرب الديمقراطي، فرنسا وأمريكا، وحتى بعض الدول العربية بكل أسف، وإنما ذهبوا إلى الانتربول وكأن الرجل “واحد من أعوان أو أبناء مبارك”، ولا أدري إلى ما يريدون الوصول بهذه الوشاية الساقطة؟ هل يريدون سجن القرضاوي؟ أم يريدون تشويه من يقوم بذلك؟ أم يريدون ثني عزائم غيره من العلماء والدعاة الذين لا يزال الطريق أمامهم طويل؟ أم يريدون إسكات الموقف المعتدل؟ حتى لا يبقى في ساحة العالم الإسلامي إلا الصراع والقتال والتدمير، من جميع الجهات، من أبناء الحركة الإسلامية الذين سيقوا إلى العنف رغم انوفهم، فتبنوه كجهاد في سبيل الله، وزبانية الأنظمة الذين توهموا ان العدو هو هذه الفئات الشابة التي اجبرت على حمل السلاح دفاعا عن كرامتها وكرامة المجتمعات الإسلامية التي استباحتها الأنظمة المفلسة.

إن محاربة العلماء من قبل الأنظمة الفاسدة، سياسة قديمة، قام بها الاستعمار في مجابهة الشعوب، أيام حروب التحرير، وسارت على دربه الأنظمة المفلسة، فاستدرج الكثير من العلماء إلى تبرير المظالم والإفتاء بصلاح الفاسد وفساد الصالح، وسجن الكثير ممن استعصوا على الاستدراج والتطويع، وعذبوا وهجروا، والقائمة في ذلك طويلة جدا، ولا أظن أحدا في العالم يجهل إعدام سيد قطب وعبد القادر عودة في مصر، وتهجير وسجن وتعذيب، عصام العطار وعلي طنطاوي عبد الفتاح أيو غدة وسعيد حوى، في سوريا، وسعيد النورسي ومدرسته بطولها وعرضها في تركيا.. والقائمة طويلة كما ذكرت.

والعجيب أن بلاد الخليج العربي كانت مأوى للكثير من العلماء المهجرين من بلادهم، في سنوات الخمسينيات والستينيات وحتى السبعينيات، لا سيما إذا كان هؤلاء العلماء قادمون من البلاد الاشتراكية، واليوم هذا الخليج هو نفسه الذي يقوم بهذا الدور النخزي بكل أسف، وكأنه مكلف بمهمة، يستقبل المهجرين في مرحلة، ويمكن ان يقوم هو نفسه بالتهجير في مرحلة أخرى، وكأنه يقوم بمهمة وفق استراتيجية من وضع أعداء الأمة.

لو كان الأمر متعلق بشخصيات عرفت بالعنف بشقيه السياسي والعسكري، كأن يدان أسامة بلادن مثلا أو عمر عبد الرحمن أو غيرهما من شيوخ التكفيريين والغلاة لفهم الأمر، على أنته تضييق على التطرف والمتطرفين، ولكن أن تطول الإدانة الشيخ القرضاوي وغيره ممن ذكرنا من الذين يشهد لهم العالم بالثقة والكفاءة العلمية والدعوية والصلاح والرسانة، فذلك بلا شك امر دبر بليل كما يقال.

يبدو لي ان الاستراتيجية المنتهجة، من قبل الولايات المتحدة وعرابي سياستها في منطقة الشرق الأوسط، تعمل على تجريد الأمة من الصوت المتوازن، في جميع المجالات السياسية والثقافية والدينية، انطلاقا من “شريعة الفوضى الخلاقة وإدارة التوحش”. ذلك ان العالم الإسلامي يجتاز مرحلة تحول خطيرة ولا ينبغي أن “يفكر” في مصيره، وإنما يجب استدراجه للشعور بالفناء، ومن ثم تثوير غريزة حب البقاء فيه، فلا يذكر من وسائل المقاومة إلا العنف..، مثلما وقع في الحركات الاستقلالية تماما، جميع بلاد المسلمين استقلت عسكريا، ولكن لا أحد منها استكمل استقلاله؛ لأن منطق العنف الثوري ومنطق الجهاد –بمعنى القتال- هما السائدان فيه إلى اليوم، وهو جانب هام من العملية الاستقلالية، ولكنه يفتقر إلى المستوى الفكري والوعي بطبيعة كل مرحلة.

واليوم -2014- يكاد التاريخ يعيد نفسه، موازين القوة غير متكافئة، والغرب متحكم في كل شيء، وقوى عربية إسلامية حية، تواصل مسيرة استكمال استقلالها عن الغرب الاستعماري، ولكن الغرب الذي لم يبق له من الأمر خارج اللعبة “إلا الفكرة الصحيحة والرجل المدرك لها”، لا يريد لهذه القوى الحية أن تشتغل خارج اللعبة، بمن في ذلك العلماء بفتاويهم وخطبهم ودروسهم، وإنما يريد أن يبقى كل شيء تحت المجهر؛ لأنه يريد أن يستثمر كل شيء لصالحه، بما في ذلك المصالح الوطنية العربية الإسلامية، ورغم ان قيمه أصبحت تستهجن بعض الأفعال المتعلقة بحرية الرأي والحريات الفردية، فإن عرَّابيه في العالم العربي والإسلامي، مستعدون للقيام بما لا يراه هو مناسبا.

مقالات ذات صلة