.. حتى زرتم المقابر (الحلقة 14)
دخلت أمس من المقبرة “ميتا” ذهبت لأدفن فكدت أن أكفن! عندما وصلت إلى الدار ومررت على دار الجار الذي لحقني منه هذا الأذى في المقبرة، تجنبت المرور بـ”بن قيطون” (ابن الميت يعني) الذي كان يستقبل المعزين عند مدخل الخيمة، ومررت من الطريق الخلفي الضيق وتسللت إلى بيت وكل أسمالي وثيابي مبهدلة، أو لنقل.. ما تبقى من ثياب وسراويل وقميص وشعر وقد علاها التراب والطين، حتى أني كنت أبدو مثل أي ماصو أو مانوفري أو فلاح، يدخل إلى البيت بعد يوم من العناء وهو صائم. كانوا سيشفقون علي، لكنهم لو عرفوا كيف أني “تمرمدت” “تمرميدة” الكلاب في المقبرة بسبب قراءتي للقرآن على الموتى مقابل أجر، لقالوا لي “ما تستاهلش”!
عائلتي، لما رأوني أدخل البيت مثل أي كلب رموه في ساقية موحلة، أسمالي متسخة وشعري معفر، انفضوا من حول المطبخ وجاؤوا يتساءلون مشدوهين: واش كاين؟ واش صرا؟ كي صرا لك؟. بابا.. واش بيك. كاش ما وقع؟.. قولنا.. بابا! وزوجتي تضحك تحت أنفها الأعوج.. بنت أعوج الرقبة: هئهئهئ..! فأنهرهم جميعا. طحت ..طحت في فوصي، في زيقو… ينعل بو البلدية اللي تحفر وتخلي الحفر محلولة في الطروطوارات!
تركتهم ودخلت الحمام لأبدل حوائجي والمغرب باق له ربع ساعة فقط.. شفتاي كانتا بلون أبيض على الجانبين والعطش يقتلني والمغص من كل جهة. الظهر يؤلمني والمعدة الفارغة تموء كأي قط بُترت ساقه في حادث سيارة يقودها شاب “لاصق“.. كانت شفتاي لاصقتين هما الأخريين حتى أني لم أكن أحسن النطق. عندما دخلت الحمام، اكتشفت أني قد أضعت سنا ونابا من الجانب الأيسر للفك العلوي، حتى أن الثغرة بدت كبوابة مدخل قاراج فارغ مظلم! (سيموت بالضحك عليّ أبنائي بعد قليل.. وأمهم أكثر)! لقد صرت أنطق حرف السين والشين، ثاء: “وين راها الثنتورة والثروال لثفر؟ راني ما ثبتهمث! ثوفوا حوثوا عليهم كي تثيبوهم ثيفطوهملي مع ثليمان الثغير! (أترجم: وين راها السنتورة والسروال الأصفر؟ راني ما صبتهمش، شوفوا حوسوا عليهم، كي تصيبوهم، صيفطوهملي مع سليمان الصغير“). أكيد أنهم كانوا يضحكون خارج الحمام أبناء الكلبة! لما “ثأخرث” (سأخرج) “ثأوريكم ثعبان كي يثوم في رمضان” (سأوريهم شعبان كي يصوم في رمضان).
اكتشفت أيضا أن سروالي الداخلي المعفن ماء (لست أدري من أين دخل الماء إليه أو خرج إليه؟ من أين يأتيني الماء إلى غاية هنا؟ والماء لم يكن موجودا في المقبرة ماعدا التراب الموحل؟) أنا لم أكن أحمل في جيوبي الداخلية قنينة ماء ولا أي سائل، ربما كان جيب من الجيوب الداخلية معمر بالماء؟ وعلاه الجيب يعمر الماء؟ هذا جيب أم كيس مائي! الحاصل مانيش عراف كيفاش جاء هذا الماء في سروالي الداخلي، رائحته تشبه الزعتر!
غيرته بسروال آخر ولبست عباءة بيضاء فوق تريكو مزركش لزوجتي.. لم أجد واحدا لي! غيرت كل ملابسي وغسلت أطرافي والأماكن التي تكلمت فيها الركلات الموضعية في معركة رمي الركلات الترجيحية.. وخرجت عليهم بفم أعوج وكدمات في الوجه (أما الأماكن الداخلية الحساسة والإستراتيجية، فمن الأحسن ألا يراها أحدٌ بمن فيهم زوجتي، لأني لا أريد أن يعرف أحد أني كنت محل لعب في مقبرة لكرة القدم!