-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حتى لا نكون وطنا يبحث عن مواطنين

حتى لا نكون وطنا يبحث عن مواطنين
أرشيف

الوطن ليس جغرافيا ولا ديمغرافيا وكفى الله المؤمنين القتال، إنه  أكبر من ذلك، فهو مكانٌ لتلاقي الأجيال ولاجتماع المكونات المختلفة التي يكمل بعضُها بعضا. قرأنا في التاريخ عن أوطان ضيَّعها أهلها، تمتعوا بخيراتها واستنفدوا مقدراتها، فلما قضوا منها وطرا أسلموها للعاديات فأتت عليها من القواعد، وقرأنا في التاريخ عن أوطان مزَّقتها الصراعات وبرحت بها الخلافات حتى أضحت أثرا بعد عين، وقرأنا في التاريخ عن أوطان بلغت شأوا بعيدا في الحضارة ثم توقفت عجلتها على حين غرة وعادت القهقرى إلى عصر ما قبل الحضارة، وقرأنا عن أوطان تغنى فيها أهلها بالوطنية فلما امتحن الزمانُ وطنيتهم انكشفت طويتهم.

قرأنا أيضاً في التاريخ عن أوطان بلغت سمعتها عنان السماء ثم هوت كجلمود صخر حطه السيل من عل، وقرأنا في التاريخ عن أوطان دخلت التاريخ من بابه الواسع ثم أفل نجمُها فلم يعد لها ذكرٌ على لسان ولا أثر ولا عمران، وقرأنا في التاريخ عن أوطان كان يهابها خصومها على مسيرة عام ثم ضعفت شوكتها ودبّ فيها الضعف سفلا وعلوا فتجرأ عليها البغاث وقد صدق الشاعر حين قال: “إن البغاث بأرضنا يستنسر”.

وفي المقابل، قرأنا في التاريخ عن أوطان أوشكت على النهاية واقتربت من الهاوية فتداعى أهلها لانتشالها من براثن الضياع وأنياب السباع، وقرأنا في التاريخ عن أوطان حلت بها الشدائد وأحاطت بها المكائد من كل جانب فاجتمع أهلها فكانوا سدا منيعا تحطمت عليه مكائد الكائدين وأحلام الطامعين، وقرأنا في التاريخ عن أوطان اجتمعت فيها فسيفساء من العرقيات والقوميات فلما تعلق الأمر بمصير الوطن تناسوا عرقياتهم وقومياتهم وهبُّوا لنصرة وطنهم ولسان حالهم يردّد “كل شيء يهون في سبيل الوطن”، وقرأنا في التاريخ عن أوطان عاشت ردحا من الزمن خارج دائرة الزمن ثم تحولت إلى قطب يسرّ الناظرين، وقرأنا في التاريخ عن أوطان عبثت بها الأعادي ثم انتشلتها الأيادي البيضاء التي تؤمن بأن قيمة الوطن لا تقدَّر بثمن، وقرأنا في التاريخ عن أوطان لم يكن لها اسمٌ ولا رسم ثم تحولت إلى معلم يطوف حوله الطوافون ويخطب وده القاصون والدانون، وقرأنا في القرآن الكريم عن قرية كان آمنة مطمئنة يأتيها رزقُها رغدا من كل مكان ثم كفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف، وقرأنا في التاريخ عن أوطان لها جغرافيا ممتدة ولكن ليس لها شعبٌ يسكنها فاضطرت إلى “استيراد” مواطنين لتكوين وطن من نثار الوافدين.

قرأنا عن الأوطان ما يتعذر وصفُه وما نعرف منه وننكر، وقرأنا عن وطن يستحق الشفقة، وطن يبحث عن مواطنين، يجعلون له اسما وينحتون له تاريخا، يرسمون له حدودا ويؤمِّنون له وجودا، ويدركون أنهم واحد وإن تعددوا وأمة واحدة وإن اختلفوا.

عجيبٌ وغريب أمر وطن يبحث عن مواطنين ولكنه الحقيقة التي وقفنا عليها في حكايات الأقدمين والمحدثين وقصص المؤرخين، ولمن يشككون في هذا الكائن العجيب الغريب أن يقرأوا ما كتبه “هيرودت” عن أوطان أصبحت أشبه بميادين صراع الثيران، تستهوي المشاهدين ولكنها موقوفة على الخطر في كل لحظة وحين، وللمشككين أن يقرأوا ما كتبه ابن خلدون عن آفة العمران ونهاية الأمم إلا بحبل من العصبية الدينية التي تجمع الشتات وتلتئم معها الأوصال، وللمشككين أن يقرأوا عن تاريخ الأوطان التي طغى فيها سلطان الخرافة على سلطان الدين وحب الوثن على حب الوطن فتحولت إلى أوطان مسلوبة مصلوبة تتلمس طريق الخلاص ولا خلاص كباسط يديه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه، وللمشككين أن يقرأوا تاريخ البلقان وكيف تمزق فيها الوطن وانقسم إلى أوطان، ولهم أن يقرأوا عن تاريخ أمم سادت ثم بادت وانتهت لأنها لم تجد من أهلها من يحمون ظهرها وينافحون عن بيضتها، وأن يقرأوا تاريخ قبائل المايا وغيرها التي فشا بين أهلها سلوكُ القبيلة فأباد بعضهم بعضا فلا ظفروا بوطن ولا بوثن بعد أن أفناهم السيف عن بكرة أبيهم.

وصلتُ الآن إلى بيت القصيد، وهو أننا نحن الجزائريين قد منَّ الله علينا بوطن هو ثمرة جهاد المخلصين، هو لنا البداية والنهاية والغاية، وطنٌ واحد يتحد مع الدين الواحد فيشكل نسيجا موحدا يجمعنا عربا وأمازيغ، نسيج أبدع الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله في وصفه بقوله: “إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ قد جمع بينهم الإسلامُ منذ بضع عشرة قرنا، ثم دأبت تلك القرون تمزج ما بينهم في الشدة والرخاء، وتؤلف بينهم في العسر واليسر، وتوحدهم في السراء والضراء، حتى كونت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصراً مسلما جزائرياً، أمه الجزائر وأبوه الإسلام. وقد كتب أبناء يعرب وأبناء مازيغ آيات اتحادهم على صفحات هذه القرون بما أراقوا من دمائهم في ميادين الشرف لإعلاء كلمة الله، وما أسالوا من محابرهم في مجالس الدرس لخدمة العل، .فأي قوة بعد هذا يقول عاقلٌ تستطيع أن تفرقهم؟”.

حتى لا نكون وطنا يبحث عن مواطنين يجب أن نعرف نواقض الوطنية فنتجنبها، ومن نواقضها أن تسود بيننا العنصرية والمناطقية، وأن تطغى الروح الحزبية على الروح الوطنية وتطغى أدبيات حب الزعيم على آداب حب الوطن، وأن تستهوينا ديمقراطية الشارع فنصدع بالتغيير ولا نعمل بأركانه التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قرآنه: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، ومن نواقضها أن ينصِّب بعضُنا أنفسَهم أوصياء على هذا الوطن فيدَّعون الوطنية لأنفسهم وينفونها عن غيرهم، وأن يزعم بعضنا -تصريحا أو تلميحا- أنه يمثل “العهدة العمرية”، وأن نعرض عن الحوار ونصرَّ على ثقافة العناد ثم ندّعي خدمة البلاد والعباد.

ومن نواقض الوطنية أيضاً أن يتنكر بعضُنا للحراك الشعبي ويناصبه العداء أو يسير في ركاب من يزعجهم التغيير لأنهم يريدون أن تبقى دار لقمان على حالها، وأن يخرج علينا بعضهم بتصريحات شاذة تشجع على الاصطفاف الإيديولوجي الذي يتنافى مع الوطنية، ومن نواقضها أن ينسِّق بعضُنا مع خصوم الماضي والحاضر والمستقبل ويهجر إخوانه ممن يتقاسمون معه أواصر الدين والتاريخ والجغرافيا، وأن يطلع علينا بعضُهم من الضفة الأخرى يدّعون أنهم محيطون بخيوط الأزمة وهم الأزمة بعينها، وأن يتصيّد بعضُنا أخطاء بعض مع أن العصمة لمن عصمهم الله وأما غيرهم فيجري عليهم الخطأ والنسيان.

ومن نواقض الوطنية كذلك أن يصرّ بعضُهم على شيطنة كل مسعى وركوب كل موجة وتصديق كل فتوى طاعة لمولاه وإتباعا لهواه، وادِّعاء بعضنا أنهم قادرون على إصلاح حال الأمة وربما إصلاح ما أفسده الدهر مع علمهم أنه قولٌ مبالغ فيه يناقض الواقع ولا يطيقه الوسع حتى ولو كان المصلِح نبيا مؤيدا بالوحي كما في قوله تعالى على لسان هود عليه السلام لقومه: “إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • جزائري الطوارق

    بلا بلا بلا
    من الأخير
    الجزائر في خطر وعلى أولادها حمايتها والوقوف مع مؤسساتها