-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حرية الصحافة في العصر الرقمي

محمد قيراط
  • 3010
  • 0
حرية الصحافة في العصر الرقمي

في عهد الإعلام الجديد والعصر الرقمي وصحافة المواطنة، ظن العديد من النقاد والمتخصصين في شؤون وشجون حرية الصحافة، أن زمن الرقيب والمقص قد ولّى وأن العالم، خاصة النامي منه، قد دخل عصرا جديدا من حرية الرأي والتعبير والصحافة ومختلف الحريات الفردية وهذا بسبب ما تقدمه التكنولوجيا الجديدة من إمكانات ووسائل للفرد في المجتمع ليُسمع رأيه ويعبر عن صوته مباشرة من خلال الانترنيت والشبكات الاجتماعية وصحافة المواطنة وما إلى ذلك.

صحيح أن الفضاء الإعلامي والاتصالي قد تغيّر تغيّرا كبيرا خلال العقدين الأخيرين من الزمن، وصحيح أن آليات التواصل ومصادر الأخبار والمعلومات قد أصبحت متوفرة كمّا ونوعا لمئات الملايين من البشر في مختلف أنحاء المعمورة، لكن هل يشفع كل هذا لصيانة حرية مقدسة وهي حرية الصحافة؟ هل تكفي التكنولوجيات الجديدة والآليات الحديثة للتواصل وجمع وتوزيع الأخبار لتوفير المناخ المثالي لممارسة حرية الصحافة؟ واقع حرية الصحافة في العالم هذه الأيام يبعث على التشاؤم، والأخطر من ذلك أن دولا عديدة تنعم بالتطور والتقدم والرخاء والديمقراطية، ولها تقاليد في حرية الصحافة، أصبحت تعاني من تجاوزات خطيرة في حق حرية الصحافة باسم الحرب على الإرهاب والأمن القومي وحماية المواطنين إلى غير ذلك.      

إغتصاب حرية الصحافة ومصادرتها من قبل قوى عديدة ومختلفة في المجتمع أصبح ممارسة عادية ويومية في الأوساط الإعلامية والسياسية والمالية. فالسلطة وبارونات المال والأعمال يستخدمون كل الطرق والوسائل للسيطرة والتحكم في المؤسسات الإعلامية ليمرروا ما يريدون من رسائل وخطابات والتعتيم على كل ما يزعجهم ويكشف تجاوزاتهم أمام الرأي العام. في مناسبات عديدة قدم الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، نداءات إلى العالم من أجل الدفاع عن حرية الصحافة، كما حثّ فيها المسؤولين على معاقبة من يعتدي على الصحافيين أو يمارس أي ضغط أو مضايقات على أدائهم لمهنتهم بكل حرية وبكل آمان. بان كي مون، أكد أن “الصحافة الحرة والمستقلة هي إحدى أسس السلام والديمقراطية”، كما اعتبر أن التعديات على الصحافة تعتبر “تعديات على القانون الدولي والانسانية والحرية وكل ما تدافع عنه الأمم المتحدة”. مئات الصحافيين يقبعون في السجون في عديد دول العالم لا لشيء إلا لأنهم كشفوا الحقيقة وقدموها إلى الرأي العام؛ لا لشيء إلا لأنهم رفعوا النقاب على أكاذيب السلطة وطرقها المختلفة في اغتصاب الرأي العام وتضليله وتزييفه.

تفيد التقارير المختلفة المتعلقة بواقع حرية الصحافة في العالم والصادرة عن عدد من المنظمات غير الحكومية في مختلف دول المعمورة، أن السنوات الأخيرة هي الأسوأ على الإطلاق من حيث التصرفات غير الأخلاقية وغير القانونية والتي تتمثل في الاغتيالات والاعتقالات والاختطاف والمداهمات والمضايقات والاعتداءات على الصحافيين. فسنة 2009 شهدت تراجعا ملحوظا في الحريات، كما شهدت تهاونا وهروبا من المسؤولية من قبل الحكومات في معاقبة المعتدين على حرية الصحافة وأولئك الذين يستعملون مختلف الطرق والوسائل لتكميم الأفواه، سواء عن طريق التصفيات الجسدية أو الحبس أو الاعتقالات أو الاختطاف أو الاعتداءات أو المضايقات أو التهديدات. والحقيقة أن العوائق والقيود التي تعترض عمل الصحافيين تتعدد، فهناك قيود تشريعية وأخرى إدارية وثالثة ذاتية والتي تعتبر الأخطر، حيث يصبح الصحافي، بسبب الخوف والمضايقات وانعدام الحماية القانونية، يمارس الرقابة على نفسه ويبتعد عن الممارسة الإعلامية الجادة والتي تتمثل في الاستقصاء والبحث عن المواضيع الجادة وعلى الحقيقة لتقديمها للرأي العام. وبذلك تصبح الرسالة الإعلامية خالية من كل ما من شأنه أن يساهم في تشكيل الفضاء العام والمجتمع المدني والقوى المضادة في المجتمع التي تتحاور وتتناقش وتراقب وتستقصي من أجل المصلحة العامة وإعلاء كلمة الحق. 

دراسات وتقارير منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة و”مراسلون بلا حدود” و”الاتحاد العالمي للصحف” و”المنظمة العالمية للصحافيين” وغيرها من المنظمات الحكومية وغير الحكومية، تبعث على التشاؤم والحسرة والحزن للمشاكل والمتاعب والخطورة التي تكتنف مهنة الصحافة. ما حدث خلال العدوان الإسرائيلي على غزة والحرب الأمريكية على العراق وما يحدث في بؤر التوترات والنزاعات في العالم يعتبر مجزرة في حق حرية الصحافة والممارسة الإعلامية النزيهة والشريفة، حيث تحول الإعلام إلى آلة للدعاية والحرب النفسية والتضليل والتشويه وتزييف للواقع. كما مارست أمريكا كل طرق الاحتيال والضغط على صحافيي العالم لابتزازهم واستغلالهم والضغط عليهم لتغطية الحرب وفق المنظور الأمريكي، الأمر الذي أدى بالمسؤولين الأمريكيين إلى القتل والتصفية وقصف مقرات الإذاعة والتلفزيون والبث وحتى الفندق الذي كان يقيم فيه الصحافيون. ففي كل سنة هناك عشرات الصحافيين يموتون رميا بالرصاص ويغتالون ويختطفون ومئات يُسجنون، ومئات يحاكمون ومئات يتعرضون لمضايقات ولإهانات، لا لشيء إلا لأنهم حاولوا القيام بواجبهم وتأدية رسالتهم على أحسن وجه، حاولوا أن يكشفوا الحقيقة ويحاربوا الرشوة والمحسوبية والوساطة وتبييض الأموال وتهريب المخدرات والآفات الاجتماعية المختلفة،… إلى غير ذلك من التجاوزات التي يدفع ضريبتها وفاتورتها الغالبية العظمى من لا حول لهم ولا قوة في المجتمع.

تقر المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حرية الرأي والتعبير، لكن في معظم دول العالم “مافيا” المال والسياسة لا تؤمن بهذا المبدأ وبهذا الحق، وأصبح من يملك المال والنفوذ والسلطة له حق التعبير والرأي، أما باقي شرائح المجتمع فتكتفي باستهلاك ما يُقدم إليها بدون مساءلة ولا استفسار. إخبار الرأي العام وإيجاد سوق حرة للأفكار أصبحت من المهام الصعبة في معظم دول العالم، بحيث أن الصحافي يجد نفسه في هذه المعادلة بين المطرقة والسندان، فهو أخلاقيا ومهنيا وعمليا مطالب بإعلام وإخبار الرأي العام ومن جهة أخرى يجد نفسه تحت ضغوط لا ترحم ولا تشفق لإرضاء أصحاب النفوذ والمال وأصحاب السلطة. فحتى الدول التي يُقال عنها أنها ديمقراطية وحرة ولها باع في الإعلام النزية والقوي أصبحت تقوم ببعض الممارسات إزاء الإعلام لا تختلف عن تلك المستخدمة في الدول السلطوية والشمولية. هذه الممارسات أدت بشعوب العالم إلى فقدان الثقة بوسائل الإعلام وعدم احترام هذه المؤسسات التي تعتبر مفتاح الديمقراطية والحريات. فالمنظومة الإعلامية أصبحت مؤسسة تنظّر وتُفبرك الواقع وفق أهواء أباطرة المال والسياسة وتحولت من ما كان يسمى بـ”السلطة الرابعة” إلى وسيلة في يد سلطة المال والأعمال وأباطرة السياسة.

نقرأ في آخر تصنيف لحرية الصحافة في العالم  لمنظمة “مراسلون بلا حدود”، أن 15 دولة عربية جاء ترتيبها بعد المائة من مجموع 169 دولة وهذا يعني أن وضع حرية الصحافة في العالم العربي يبعث على التشاؤم وأن هذا سيعيق، من دون أدنى شك، الحريات الأخرى والتي تتعلق بالممارسة السياسية والمشاركة في صناعة القرار والنقد والنقد الذاتي…الخ. فمصادرة حرية الصحافة والضغط على الصحافيين من خلال القوانين الجائرة وأساليب الترهيب والعنف والاختطاف والتصفية الجسدية كلها ممارسات غير مقبولة ومنتهكة للحقوق الأساسية للأفراد، كما أنها تعيق حرية نقل المعلومات الصحيحة والجديرة بالثقة والتي تعتبر أساس الحكم الراشد والديمقراطية.   

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!