-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حسن رمضان فحلة.. رجل الفكرة وفارس الدعوة

حسن رمضان فحلة.. رجل الفكرة وفارس الدعوة

وُلد فقيدنا الأستاذ الدكتور حسن رمضان فحلة في سوريا، وقضى شطرا من حياته في كتاتيب ومدارس الشام التي كان ينسل إليها أهل القرآن وطلاب المعرفة من كل حدب وصوب، فحيثما ولّيت وجهك في بلاد الشام وجدتَ مجالس للعلماء وحلقات للفقهاء. لقد ارتبط تاريخ الشام منذ العهد الإسلامي الأول بتخريج الدعاة والعلماء والفقهاء الذين انتشروا منها في كل الأمصار والأقطار فلا تسأل أكثر الطلاب عن مدرستهم الأولى إلا أجابوك من بلا تردد بأنها المدرسة الشامية.

ترك فقيدنا الأستاذ فحلة بلاد الشام وجاء إلى بلده الثاني الجزائر التي تسري رابطة الأخوّة في الله في قلوب أبنائها الذين لا يرون تمييزا بين شامي وجزائري ولا بين يمني أو بغدادي، الكلّ تجمعهم مظلة واحدة هي مظلة الإسلام، وحتى غير المسلمين منهم بيننا وبينهم ميثاق غليظ مستوحى من الموروث التاريخي والثقافي المشترك. لقد استقبلت المدارس والجامعات الجزائرية منذ فجر الاستقلال كوكبة من المدرِّسين والباحثين السوريين الذين وجدوا في الجزائر المكان الأفضل للاستقرار آمنين على أنفسهم وأموالهم تماما كما كانوا في وطنهم، فمنهم من مكث في الجزائر ما شاء الله له أن يمكث ثم رجع إلى بلده، ومنهم من تجنس بالجنسية الجزائرية فحمل الحسنيين؛ شرف الانتساب إلى أرض الشام وشرف الانتساب إلى أرض الثوار، وكان فقيدُنا فحلة من الذين آثروا البقاء في الجزائر وقضى فيها ما يناهز أربعين سنة إلى أن توفاه الله سبحانه وتعالى.

صاحب القلم الملهم والداعية الهادئ

حيثما تجوّلت عيناك في رفوف المكتبات العامة والخاصة في الجزائر وجدتَ مجموعة قيمة من مؤلفات حسن رمضان فحلة التي يتخذ منها الأئمة مرجعا لخطبهم ومواعظهم، ويتخذ منها الطلاب مرجعا لرسائلهم وبحوثهم. إنه صاحب القلم الملهم في للدفاع عن الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة. لم يُعرف عن فقيدنا الداعية فحلة تطرّفٌ في القول أو شذوذٌ في الفعل، ولم يُعرف عنه أنه اعتلى المنبر انتصارا لفكر أو تحيزا لمذهب، ولم يُعرف عنه هرولته إلى كسب الألقاب، وقد رافقني في بعض المناظرات التي كان ينظمها المركز الثقافي الإسلامي بقسنطينة، فوجدته صارما في الحق، يكنُّ احتراما للآخر ولكنه لا يساوم على قيم الإسلام. جمعتني به مناظرة دينية مع وفدٍ من المسيحيين في 2003 بقصر الثقافة مالك حداد فكان صدّاعا بالحق، يجادل الآخر ليس بقصد الغلبة وإنما بقصد إلزامه الحجّة وإقناعه بالحقيقة التي يعين عليها النقلٌ ويؤكدها العقل.

من الطرائف التي حدثت في المناظرة الدينية أنني كنت شديدا في المناظرة أهزّ الطاولة هزًّا وكأنني في معركة حامية الوطيس، وكان هذا ديدني وطريقتي في المناظرة، وخاصة حينما يتعلق الأمر بالمكائد التي يحيكها المنصِّرون للإسلام، وكان فقيدُنا فحلة نقيضي تماما فأضفى على القاعة سكونا لافتا للنظر، كان الرجل هادئا في عرضه وقد تعلمت منه الكثير في فنّ المناظرة، فهو يكبرني سنا وتجربة وعلما واحتكاكه بالمسيحيين يعود إلى المراحل الأولى من حياته، فسوريا كما نعلم هي ملتقى الأديان والطوائف التي جمعتها ظروف التاريخ ومبادئ العيش المشترك والمصير المشترك قبل أن ينزغ الشيطان بينهم، ومن هذه التجربة الثرية اكتسب فقيدنا فحلة رزانة في الجدال وثباتا في النزال من غير أن يتنازل عن قِيمه قيد أنملة.

لقد كان فقيدنا فحلة شغوفا بالكتابة عن البيت النبوي الطاهر وعن أمهات المؤمنين الطاهرات، وإنك لتجد فيما يكتب نبرة المحب لبيت النبوّة وكأنه من البقية الباقية من الرعيل الأول الذين عاشوا مدافعين عن دينهم ومناصرين لنبيهم، فلم يتخلف فقيدنا في خضم الإساءات التي تعرّض لها النبي صلى الله عليه وسلم وبيت النبوّة عن نصرة النبي وأهل بيته إسهاما منه بمعية بعض الدعاة في إبطال كيد الحاقدين.

الواعظُ التي تعرفه مساجد الجزائر

لم يكن فقيدنا حسن رمضان فحلة يردُّ دعوة ترِد إليه من أي مسجد من مساجد الجزائر، وقد بقي على ذلك حتى بعد أن بدأ المرض ينخر جسده، وكانت مواعظه على بساطتها جالبة للأسماع وغاية في الإمتاع ومفعمة بالقيم والمعاني الكبيرة، فهو يتجوّل بسامعيه في رحاب القرآن الكريم والسنة والسيرة النبوية ويربط بين ماضي الأمة وحاضرها، فكان يقوم بعملية وصل بين السلف والخلف.

ما أحوج مساجدنا إلى وعّاظ من طينة فحلة، يعيدون للمنبر هيبته وقداسته، ويعرفون أنهم في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يوقعون عن أنفسهم بل يوقعون عن رب العلمين، فلا يتبجّحون ولا يجنحون بعيدا عن الحقّ فيُثقلون آذان المستمعين بنصوص تشجِّع على الكراهية ولو عن غير قصد كما يفعل بعض الأئمة الذين لا يرون الحق إلا في صفهم وفيما قاله مشايخُهم وأفتى به علماؤهم.

لم يكن يستهوي فقيدَنا فحلة الخوضُ في الجدل الفكري ولا في الجدل الفقهي إلا بقدر، وكان يركّز على ما يلمُّ الشَّمل، وهذا على خلاف بعض الوعّاظ الذين يغالون في اقتناء العبارات اللاذعة التي تشفي غليلهم وتبكت خصومهم.

العالم الذي تعرفه جامعاتُ الجزائر

إن تكوين فقيدنا حسن رمضان فحلة تكوينٌ فقهي شرعي؛ فقد كان ضمن لجنة الخبراء بجامعة الأمير عبد القادر ومدرِّسا بجامعة باتنة، وكان الطلبة يفضِّلون إشرافه عليهم في مذكراتهم، وكان إذا دخل قاعة الدرس ساد هدوءٌ رهيب؛ فللرجل مهابة لافتة للنظر، ولكن إلى جانب عمله العلمي والبيداغوجي بجامعتي الأمير عبد القادر وجامعة باتنة، كان يحضر النشاطات الثقافية التي تقيمها الجامعات الجزائرية الأخرى لأنه يعلم بأن المؤمن كالغيث حيثما وقع نفع، فلا يكون هناك نقاشٌ وطني حول نظام الأسرة أو حول محاربة الجريمة إلا ويهرع فقيدنا للمشاركة إسهاما منه في إصلاح المجتمع وتعزيزا لجهود العاملين في هذا المجال.

أحبّ الجزائر فأحبّته

يتكلم فقيدنا حسن رمضان فحلة عن الجزائر بحبٍّ خرافي وتسبق عبراتُه عبارته وهو يتحدث عن أمجاد الجزائر التي صنعها الأجداد، ولا غرابة في ذلك، فنحن والسوريون يجمعها تاريخٌ واحد ومصير واحد، ومن أحب دمشق فقد أحب الجزائر، أليست سوريا هي المنفى الذي آوى إليه مؤسسُ الدولة الجزائرية الحديثة الأمير عبد القادر؟ فبيننا وبين السوريين رابطة الإسلام والعروبة وقرابة الدم، وقد كنا قبل زمن الحرب نتردد على سوريا فلمسنا من أهلها حبا كبيرا للجزائر ولثورات الجزائر وعظماء وعظيمات الجزائر.

رافقني في بعض المناظرات التي كان ينظمها المركز الثقافي الإسلامي بقسنطينة، فوجدته صارما في الحق، يكنُّ احتراما للآخر ولكنه لا يساوم على قيم الإسلام. جمعتني به مناظرة دينية مع وفدٍ من المسيحيين في 2003 بقصر الثقافة مالك حداد فكان صدّاعا بالحق، يجادل الآخر ليس بقصد الغلبة وإنما بقصد إلزامه الحجّة وإقناعه بالحقيقة التي يعين عليها النقلٌ ويؤكدها العقل.

لقد أسهم فقيدُنا فحلة بقسط كبير في الدفاع عن المرجعية الدينية والأمن القومي، وقرأنا له إسهاماتٍ تثلج الصدر في منازلة المتربصين بالجزائر، ولو نهج بعض الدعاة نهجه لاستطعنا أن نرتقي بالخطاب الدّعوي ونرتقي في منازل الرُّشد الفكري بدلا من الضجيج الفكري الذي يمارسه بعض الدعاة ويستفيد منه للأسف خصومُ الدين والوطن.

قد يحبُّ الإنسان شيئين ويميل إلى أحدهما، فمعايير الحب تقبل ذلك، وهذا ينطبق على فقيدنا الذي أحب كل مناطق الجزائر ولكنه كان أميل إلى مدينة الهوى قسنطينة، فهو لا يخفي إعجابه بهذه المدينة وبشيخها عبد الحميد بن باديس رحمه الله، وبالضيف المتميز الذي حل بها في منتصف الثمانينيات العلامة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله.

نسأل الله أن يرحم فقيدنا حسن رمضان فحلة وأن يُنزله منازل الأبرار وأن يجزيه عن الجزائر وعن أمة الإسلام خير الجزاء. “وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!