الرأي

حينما يُمنع باحث جزائري من إلقاء محاضرة بجامعة باب الزوار!

تُعتبر جامعة باب الزوار لدى الكثيرين الجامعة المرجع في المجال العلمي والتقني على المستوى الوطني. ولا غرو في ذلك لأنها وَرِثت كلية العلوم للجامعة الجزائرية التي مضى على تدشينها أزيد من قرن (افتتحت عام 1909) . وقد كوّنت جامعة باب الزوار العديد من الباحثين، ومنهم من غادر البلاد وظل بالخارج، ومنهم من مكث في نفس الجامعة، وهناك آخرون انتشروا في الجامعات الجزائرية الأخرى حين كانت جامعة باب الزوار الوحيدة تقريبا التي تكوّن في المجال العلمي على المستوى الوطني..

جامعة باب الزوار كانت في وقت من الأوقات منارة علمية على المستوى الوطني يؤمها الكثير من الضيوف والأساتذة الزائرين من البلاد الأجنبية، يحاضرون ويشرفون على الطلبة، ويدرسّون. هذا ما كانت عليه الجامعة في وقت أكل عليه الدهر. ثم جاء وقت آخر تغيرت فيه الموازين والأحكام.

خلال هذه المرحلة الجديدة، تغيرت هيكلتها وبدل المعاهد أصبحت (كما كان أيام زمان) هناك كليات. لكن بدل   كلية العلوم” أصبحنا نجد كلية الرياضيات وكلية الفيزياء وكلية البيولوجيا، وكلية الإعلام الآلي.. وصار كل عميد كلية “إمبراطورا” له استقلالية تكاد تكون مطلقة، يأمر وينهى دون الرجوع إلى رئيس الجامعة في معظم ما يقوم به. 

في كلية الرياضيات مثلا ثمة أربعة أقسام (جبر، تحليل، احتمالات وإحصاء، بحوث عمليات). وتضم الكلية عددا كبيرا من اختصاصات الماستر والدكتوراه ومشاريع البحث في كل المجالات ضمن ما يقارب عشرة مخابر من مخابر البحث في حقل الرياضيات. وفي هذا الخضم، ينشّط الزملاء عديد حلقات البحث الأسبوعية (الوتيرة ليست دوما أسبوعية) يقدم فيها أساتذة باب الزوار أنفسهم أو الزوار والضيوف القادمون من الخارج أو الداخل بحوثا متقدمة يستفيد منها الباحثون من كل المستويات، ومنهم بوجه خاص طلبة الدكتوراه. وهو نشاط يُشكر عليه المشرفون والمنظمون معًا… لأن القليل من الجامعات في البلاد تقوم بهذا النشاط المضني للمنظمين. 

والمعلوم أن منظمي مثل هذه الحلقات يبحثون دوما عن الجديد ويدعون أساتذة باحثين من خارج الجامعة، وإن علموا أن أحدهم في الاختصاص قد زار جامعة أخرى قريبة فغالبا ما يسارعون لاستضافته لإلقاء محاضرة أو أكثر في إطار حلقات البحث من أجل الاستفادة من علمه وإفادة طلبة الدراسات العليا، وهذا من دون تكاليف مادية.

 

إننا نستغرب، أيما استغراب، على ما آلت إليها أوضاع “انفتاح” جامعة باب الزوار على كل ما يقدم في المجال العلمي. وصرنا هكذا نرى أبناء الوطن يأتون من الخارج ويقدمون للجامعة خدماتهم بدون مقابل فيرفضها أصحابُ القرار تعسّفًا، لا لسبب علمي بل لأسباب أقل ما يقال عنها أنها تُدان وتُستنكر بكل المعايير.

هذا هو المألوف والمعمول به عندنا وفي سائر البلدان. لكن ما حدث في باب الزوار يوم 3 نوفمبر الجاري خالف هذا المألوف. واختصار ما حدث هو التالي: الأستاذ عبد الغني زغيب الجزائري، مختص في الرياضيات وهو يشغل منصب مدير بحث في المعهد القومي للبحث العلمي الفرنسي CNRS، وهذا منذ نحو عشرين سنة. وفي سياق الاستفادة من علمائنا بالمهجر، تم هذه السنة الاتفاق بينه وبين المدرسة العليا للأساتذة بالقبة على أن يقضي بضعة شهور في قسم الرياضيات ليُلقي محاضرات على طلبة الدراسات العليا ويشرف على البعض منهم. وهكذا هو الحال الآن.

وبمناسبة وجوده بالعاصمة، طلب منه أساتذة من قسم بحوث العمليات في كلية الرياضيات بباب الزوار أن يلقي محاضرة في حلقة البحث التي يعقدونها كل أسبوع، فرحب بالفكرة واستجاب، واتفقوا على موضوع المحاضرة على أن يتم إلقاؤها يوم الثلاثاء 3 نوفمبر في الموعد الأسبوعي للحلقة. ونشر الخبر وعنوان المحاضرة، وبُث في أوساط الأساتذة والمهتمين حتى من خارج الجامعة قبل أيام من موعد المحاضرة.

لكن الأستاذ عبد الغني زغيب تفاجأ عشية يوم الإلقاء بخبر إلغاء محاضرته وتم إبلاغه بالبريد الإلكتروني أن ذلك يرجع إلى “أسباب تقنية”؟!

من الواضح أن السبب يمكن أن يكون أي شيء عدا الأسباب التقنية”! إذ أن المحاضرة لا تتطلب أكثر من طبشور وممحاة وسبورة، كيف نفسّر أن يتم إلغاء المحاضرة، وعلى إثر ذلك يستقيل الزميل المشرف على حلقة البحث؟ ثم كيف يتم الاتصال بأصحاب الحل والربط بمخبر البحث هذا ولا يردون عن السؤال؟

علينا أن نذكر بأن الأستاذ زغيب كانت له مواقف علمية ناقدة للوضع عبّر عنها بحدة من خلال رسائل خشنة” منذ سنوات وصلت إلى كبار المسؤولين في الوزارة. وقد أحدثت تلك المواقف ضجّة من الاستنكار في باب الزوار وسط المقربين من رئيس الجامعة، الأستاذ بن علي بن زاغو، لأن تلك المواقف مست مسار هذا الأخير وأمثاله في الصميم. ومن هؤلاء من له باع طويل في كلية الرياضيات، وفي قسم بحوث العمليات بوجه خاصة.

ونظرا لهذه الخلفية فنحن لا يمكن أن نفصلها بسهولة عما وقع يوم 3 نوفمبر، ومن الصعب أن نصدق الأسباب التقنية”، فأمر كهذا لم يسبق أن حدث في أية جامعة أخرى: يستضيفون أستاذا بارزا وبـدون تكاليف تكاليف مادية، وينشر الإعلان وعنوان المحاضرة، ثم تلغى المحاضرة عشية موعد إلقائها؟

لو كان موضوع المحاضرة ذا طابع سياسي أو ديني أو إيديولوجي ونحوها لكان الأمر أهون، وربما تفهمنا الموقف المتخذ من قبل الجامعة، لكن الأمر يتعلق هنا بمحاضرة في الرياضيات البحتة!

ولذا فإننا نستغرب، أيما استغراب، على ما آلت إليها أوضاع “انفتاح” جامعة باب الزوار على كل ما يقدم في المجال العلمي. وصرنا هكذا نرى أبناء الوطن يأتون من الخارج ويقدمون للجامعة خدماتهم بدون مقابل فيرفضها أصحابُ القرار تعسّفًا، لا لسبب علمي بل لأسباب أقل ما يقال عنها أنها تُدان وتُستنكر بكل المعايير.

ونحن نندهش لرئيس جامعة كهذه، كان له شرف تدشينها في مطلع السبعينيات، يسمح بمثل هذه السلوكات العبثية من قبل أولئك المنضوين تحت مسؤوليته، والذين يدعمهم ويدعمونه.. تبًا لهؤلاء المسؤولين جميعا الذين لا خير فيهم، فلا هم أنجزوا ولا تركوا الآخرين ينجزون. 


ستاذ بقسم الرياضيات/ المدرسة العليا للأساتذة – القبة

مقالات ذات صلة