الشروق العربي
أسرار الباخرة جوزفين في مارسيليا

حين كانت عظام الجزائريين تستعمل في صناعة السكر

فاروق كداش
  • 22315
  • 17

منذ السنوات الأولى للاستعمار الفرنسي في الجزائر، بدأت ماكينة التدمير زحفها على الأخضر واليابس، فدمرت المساجد وانتهكت حرمة البيوت، ولم تنج من بطشها المقابر.. الشروق العربي تروي جزءا من تاريخ فرنسا المروع، وضلوعها في جريمة إنسانية أخرى، قد تسمعون عنها لأول مرة.

وإن نجت بعض الأحياء القديمة من ماكينة التدمير، إلا أن بعضها الآخر لم يكن لديه نفس المصير. فقد أدت أشغال حفر الطريق المؤدي إلى حصن لامبيرور، ومشرع ساحة شُيدت بالقرب من باب الوادي، بداية من عام 1831، إلى التدمير المنهجي لمقبرتين من مقابر المسلمين، ضاربة عرض الحائط بكل القوانين والأعراف الإنسانية، التي تلزم أي مستعمر باحترام الأماكن المقدسة للبلد المحتل.. وأُخلفت الوعود التي قطعها رسميا الجنرال دي بورمونت، عندما احتل الجزائر العاصمة، بعدم المساس بالحريات الدينية والمساجد والمقابر.

في نفس الوقت الذي تم فيه نهب مقابر باب الوادي ومقابر باب عزون، تم تدمير المئات منها خارج أسوار باب الجديد، بالإضافة إلى تلك الموجودة على طول الأسوار، وقرب ساحة الشهداء الحالية، وشوارع علي بومنجل، والعربي بن مهيدي، والنقيب حسني يسعد.

الدمار الذي لحق بمقابر المسلمين، كان الهدف منه توسعيا استيطانيا.. فإزالة أماكن الدفن سمحت بتطوير المساكن الحضرية، التي تهدف إلى إيواء المهاجرين الأوائل، وكذلك فتح الطرق. ولم تسلم مقابر الجزائريين من أطماع المستعمر، في كل أنحاء البلاد.. وهذا، لتوسيع المساحات الزراعية ورفع المحاصيل. فمثلا، في عام 1920، ضم مستوطن فرنسي ثلاث مقابر جزائرية إلى أرضه الفلاحية، في منطقة الأربعاء. وتكررت نفس الممارسات، عام 1952، في منطقة سيدي حسني بتيارت. ويحزننا أن نذكر أنه في العديد من المرات لم تكن القبور قديمة، بل حديثة الحفر، لم يمض على وفاة أصحابها إلا أيام… الجرار يحفر، والنساء تنتحب في صمت، فالموت لا يضرب مرتين.

سكر بطعم الموت

لم يكتف المستعمر الفرنسي بما فعله في المقابر، بل تجاسر على نقل رفات الأجداد إلى مارسيليا، لاستخدامه في

صناعة، أقل ما يقال عنها إنها مروعة ودنيئة.. فقد كانت العظام الطاهرة تستعمل في صناعة السكر… إنه سكر بطعم الموت.

وقد ذكر المؤرخ “مولاي بلحميسي” أن السفن المحملة بالعظام كانت تنطلق من الجزائر، إلى ميناء مرسيليا، وتفرغ في الموانئ، وتستعمل في استخراج الحيوان الأسود.. وهي تسمية قديمة للفحم الحيواني، وهو عبارة عن فحم يتم الحصول عليه بتكليس العظام في الفراغ. وكان يستعمل في تغيير لون السوائل العضوية، وتقليل الأكسدة. وقد انتشر الخبر آنذاك كالنار في الهشيم، إلا أن المستعمر دحض الوقائع، على الرغم من وجود شهادات تؤكد ما حصل بالتفصيل. ولكن، بوصول السفينة الفرنسية “لابون جوزفين”، إلى ميناء مرسيليا، في مارس من سنة 1833، تبخرت كل الشكوك، لتصبح يقينا قاطعا. فعلى مرأى الجمع، تم تفريغ عظام بشرية وجماجم في الميناء.

وشهد شاهد من أهلها

وقد أدلى الدكتور سيغو بشهادته في جريدة “سيمافور”، في 2 مارس 1833:

“على متن سفينة “لابون جوزفين”، القادمة من الجزائر العاصمة، تعرفت على العديد من العظام التي كانت جزءًا من الهيكل البشري، كعظام الجمجمة والفخذ والزند، وجاء بعضها ملتصقا بأجزاء لحمية “.

في عام 1938، علم الأمير عبد القادر بتجارة الرفات البشرية، فأرسل توصيات في جميع أنحاء البلاد تمنع الجزائريين تمامًا من استهلاك السكر الأبيض، وهو استهلاك يمكن تشبيهه بشكل واضح بشكل من أشكال أكل الجثث.

لا ندري متى أقلعت فرنسا عن ممارساتها اللا إنسانية هذه، فقد بقيت تنفي كل ما قيل وسيقال عنها، لكنها وفي سر واصلت مهمتها المقدسة في تدمير الجزائر، وجعلها رمادا ثم إعادة بنائها بهويتها وبهندستها وتماثيلها، ثم تزعم أنها بنت حضارة في بلد كان لاشيء من قبلها… ولكن التاريخ في النهاية أظهرها على حقيقتها القاتمة الموحلة في الحقارة.

مقالات ذات صلة