-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
من زبائنه بن باديس ورضا حوحو وشافية بوذراع

حي “الجزارين” بقسنطينة .. صمود برغم دمار “العصرنة” وجائحة الغلاء

حي “الجزارين” بقسنطينة .. صمود برغم دمار “العصرنة” وجائحة الغلاء
أرشيف

كانت الساعة، تشير إلى التاسعة من صباح يوم الاثنين، عندما وصلت “الشروق”، إلى الحي التجاري التاريخي المنسي، وهو حي الجزارين في قلب قسنطينة، غير بعيد عن رحبة الصوف، وبالرغم من أن الصائمين والزبائن لم يطرقوا باب الحي بعد، إلا أن جزاري المحلات الصغيرة التي فاق سنها القرنين من الزمان، باشروا عملهم الروتيني اليومي، يتبادلون حكايات الزمن الماضي، وأيضا ما يحدث في العالم، من نكسة “الخضر” أمام الكاميرون والحرب في أوكرانيا وكل جديد، مع الإصرار في كل كلامهم على ذرف دمعة على حال قسنطينة.
يقع حي الجزارين الذي لم يبق فيه سوى اثنين وثلاثين محلا للجزارة، يبيع تجاره النقانق وأحشاء الخرفان والعجول، إضافة إلى “الدماغ” و”الكرعين” كما يطلق عليها في عاصمة الشرق الجزائري، وهو محاذي لجامع الأخضر الذي لا يبعد عنه إلا بخمسة أمتار فقط، وهو الجامع الذي عاش فيه الشيخ بن باديس حياته التعليمية، كما أمّ فيه الناس في صلاة التراويح، ولم يكن سنّه قد زاد عن 11 سنة، ومازال لحد الآن شقيق الشيخ بن باديس، الأستاذ عبد الحق يعبر هذا الحي الضيق والعتيق، وسط محلات القصابة برغم ثقل السنوات، بعد أن بلغ من العمر، قرنا وسنتين.
يقول بوجمعة وهو من قصابي الحي الذي ورث المهنة من والده، بأنه وفيّ لمحله الصغير جدا، كما هو حال كل المحلات، بأن أمرا لا يمكن تفسيره يجعله يتشبث بالمكان، برغم إغراءات المحلات الجديدة والواسعة المنتشرة في المدينة وخاصة في المدينة الجديدة علي منجلي، ويبكي جاره في المهنة السيد بن عميرة على الحالة العامة لتجارة الفقراء، ويقول بأن هدفه إرضاء الزبون بخدمة وسلعة في متناول الجميع خاصة البسطاء منهم، حيث لا يزيد سعر الكيلوغرام من “المرقاز” في حي الجزارين عن 500 دج، بينما يباع حاليا في حي سان جان، بقلب المدينة بـ 1500 دج، أي ضعف سعره في حي الجزارين، مع اختلاف طبعا في مكوناته وطريقة عمله، حيث يمتلك قصابي حي الجزارين الخبرة التي ورثوها من آبائهم وأجدادهم وحاول بقية أهل القصابات العصرية تقديم ما هو عصري، وخاصة المصنوع من اللحم الصافي كما يقولون.
وبينما تصطف سلاسل طويلة من “بوزلوف” على الرفوف برفقة “الكرعين”، يفضل بعض الباعة، تقديم هذه المواد، خاصة في شهر رمضان، بالمجان، لبعض عابري السبيل أو الفقراء، أما بقة الأحشاء فإن أثمانها تكاد تقارب نصف ثمن بيعها في قصابات وسط مدينة قسنطينة من أحشاء الخروف والعجل في منظر، لا يختلف عن منظر سوق العصر الذي لا يبعد سوى عشرات الأمتار عن حي الجزارين، حيث يباع فيه ما يطلبه الزبائن من خضر وفواكه.
في حي الجزارين من دون أن تشعر تجد نفسك تعيش نفحات القرن قبل الماضي، تتذكر كل رجالات جمعية العلماء المسلمين والمفكر مالك بن نبي والأديب الشهيد رضا حوحو، الذي قال في إحدى كتاباته بأن توقفه في حي الجزارين لشراء طعام يومه هو ضرورة ملحة، ويكون من الصعب أن تترك المكان، وكل حجرة فيه تدعوك للتأمل وتذكرك بالذين تحدثوا عنه من أمثال الممثلة شافية بوذراع والروائي طاهر وطار.
هناك مدن كبيرة لا تمتلك أكثر من ثلاثة مساجد، والغريب أنه في حي الجزارين، يوجد ثلاثة مساجد تاريخية، وهي جامع الأخضر، الذي بذل فيه بن باديس زهرة عمره في تدريس طلبته، بمعدل ستة دروس في اليوم، ومسجد سيدي ذرار الذي شيّد قبل عام 1190 م، وهو واحد من أقدم جوامع العالم، ومسجد ميمون، وغير بعيد عنه، بل بجواره، ترتفع منارات مساجد عريقة، لا تبعد عنه سوى بعشرات الأمتار، ومنها مسجد الباي والجامع الكبير ومسجد سيدي قموش التابع لعائلة العلامة بن باديس.
الجزار الشاب بن عميرة، وهو يروي لنا روعة المكان وسحره التاريخي تحدث عن جدّه الذي كان أول من دافع عن المصلين في فاجعة قسنطينة التي حدثت في سنة 1934، عندما قام أحد يهود حي رحبة الصوف باستفزاز المسلمين، من خلال التبوّل في باحة الجامع الأخضر، فتولى جدّه الرد السريع، بغرس خنجر في عنق هذا اليهودي، قبل أن تندلع المعركة الكبيرة بن يهود ومسلمي مدينة قسنطينة والتي رواها بالتفصيل الشيخ بن باديس في جريدة الشهاب التي كان يديرها وسماها بفاجعة قسنطينة، والتي تم فيها استعمال سكاكين وسواطير محلات الجزائريين الخاصة ببيع اللحوم.

حي الجزارين شاهد على معركة العزة
لقي الشيخ عبد الحميد بن باديس، ربّه، قبل نكبة فلسطين، بنحو ثماني سنوات، حيث ضاع القدس التي أمضى فيها بن باديس أياما، عندما أدى فريضة الحج، ولمن أراد أن يتأكد من روعة حي الجزارين وامتزاجه بالتاريخ، يعود إلى عدد الشهاب الصادر في 11 ديسمبر 1934، عندما روى بن باديس معركة الحجارة والخناجر، التي دارت بن اليهود والمسلمين.
فقد اشتعلت شرارة الأحداث في الجامع، الذي كان يلقي به بن باديس دروسه، وهو جامع الأخضر بقسنطينة المتواجد بحي الجزارين الذي يقتسم فيه اليهود والعرب مهنة الجزارة، عندما اقتحمه في ليلة جمعة أثناء صلاة العشاء، يهودي سكران، وراح يسبّ المصلين ويزعم بأنه شاهد عوراتهم، وينعتهم بالأنذال، وقيل بحسب ما رواه للشروق اليومي، السيد بن عميرة عن جده، بأن هذا اليهودي تبوّل في باحة الجامع، فحاولوا زجره ولكن حالة سُكر هذا اليهودي المدعو إلياهو خليفي، منحته حرية إخراج ما في جوفه من حقد، وراح يسبّ النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالرغم من الدعوى التي رفعها المصلون لدى مصالح الشرطة، إلا أن اليهودي رفض الامتثال للاستدعاء، وواصل استفزازه للجميع برفقة زوجته في حي رحبة الصوف وإثارة الفتنة في حي الجزارين، حيث لا صوت يعلو فوق صوت السكاكين، فتجمهر الناس ليلا وبدأ البعض يدعو لمهاجمة بيت هذا اليهودي، وحرقه، فلجأ رجال الشرطة إلى حراسة بيت اليهودي، لينضم بقية اليهود للمعركة الكلامية وحوّلوها إلى الفعل، من خلال قذف المسلمين بالحجارة.
وكان حي الجزارين شاهدا على المعركة الطاحنة، التي كانت عبارة عن إعلان بداية نهاية اليهود في قسنطينة، فاندلعت حرب الحجارة، إذ رشق المتجمهرون منازل اليهود، فاستخرج بعض اليهود بنادقهم ومسدساتهم وأطلقوا الرصاص. وحاول رجال الدين المرسّمين من طرف الاستعمار، ومنهم مفتي قسنطينة إقناع المسلمين بالعودة لبيوتهم ولكنهم طردوه واعتبروه سببا في الإهانات التي تصلهم من اليهود، وأغلق حي الجزارين لأول مرة دكاكينه لعدة أيام خاصة بعد أن صارت أخبار العنف والقتل وسقوط ضحايا تتهاطل من هنا وهناك.

من هنا بدأت نهاية يهود قسنطينة
وعندما توجّه بن باديس إلى مكتبه بجريدة الشهاب، غير بعيد عن حي الجزارين، وجد استدعاء بلغه من شرطي فرنسي يدعى فيزرو، الذي طلب من الشيخ أن يطفئ نار الفتنة، وردّ عليه الشيخ بن باديس قائلا بأن المسلمين لا يمكنهم الصبر دائما على التعدّي على أمر دينهم، وقال كلمة مشهورة دوّنها في الشهاب، “نستطيع أن نمسك بغضب المسلمين إلا إذا أهينوا في دينهم، فإن الأمر حينئذ يصعب علينا”، وكتبت صحفية “لاكسيون فرانساز” الفرنسية، بأن اليهود هم أول من أطلق النار، وجاء الطلق من محل يهودي للمصوغات ملتصق بحي الجزارين، وأصيب العشرات من الأهالي بجروح متفاوتة الخطورة، وانتشر خبر الاعتداء في قسنطينة فحدث الهجوم الكبير على أنهج اليهود ودكاكينهم في رحبة الصوف وحي الجزارين فحطّموها وأحرقوا السلع الموجودة فيها، وسقط حسب الشيخ بن باديس أكثر من عشرين قتيلا من اليهود، وحسب الصحافة الفرنسية ثلاثون.
وحمّل بن باديس المستعمرين تبعات ما حدث، لأنه طالب دائما، بنزع بنادقهم، وقوبل طلبه بالرفض، وسقط من اليهود خمس نسوة وستة من الصبيان قتلى، واعتبر الشيخ دماءهم في رقبة السلطة الفرنسية، التي تركت الشرارة تتحوّل إلى لهيب، ورد الشيخ على الذين حجّموا خسائر المسلمين بالقول إن دكاكينهم في حي الجزارين ورحبة الصوف كانت قليلة وبضاعتهم أيضا قليلة، وهلك من المسلمين حسب الشيخ بن باديس رجلان تلقيا طلقات نارية بالرصاص، وجرح أربعة أطفال بالرصاص أيضا، بينما سقط كل اليهود قتلى بالعصي والطعن بالخناجر، في معركة ثأر فيها اليهود بعد ذلك، عندما اندلعت الثورة التحريرية، فاختاروا فرنسا وعندما غادرت لحقوا بها وتحرّر حي الجزارين من الاستعمار، ولكنه في السنوات الأخيرة صار يئن بمغادرة الناس أزقته وممره الضيق، بحجارة تتساقط من مساجده ومحلاته ومعالمه، وقلوب مسؤولين أشدّ قسوة من الحجارة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!