الرأي

حَراكٌ مستدام لإنجاز التحرير الثاني للجزائر

حبيب راشدين
  • 1352
  • 5
ح.م

قبل ثمانية أشهر لم يكن بوسع أحد أن يراهن على مثول كبار القوم من رأس الدولة أمام العدالة بتهم فساد ثقيلة وصفها وزير العدل بالمفزعة، لتكون هذه المحاكمات واحدة من أعظم إنجازات الحَراك الشعبي، لم يتحقق لأي ثورة شعبية من قبل، تحتاج إلى حراك شعبي مستدام يستكمل تحرير البلد من مخلفات الحقبة الاستعمارية وتفكيك حواضنه المفرِّخة لأعوان ووكلاء الاستعمار الجديد.

مقارنة الحَراك الشعبي السلمي في الجزائر مع حراك الربيع العربي، الذي قص شوارب أنظمة الحكم وعفا عن لحاها، وحراك السودانيين واللبنانيين والعراقيين الذي أطاح ببعض رؤوس الدولة من دون محاسبة للفاسدين والمفسدين، تفضي بكل أمانة إلى التأكيد بأن ما حققه الحراك في الجزائر يفوق بأشواط ما كانت تحلم به شعوب الربيع العربي، وما ليس في متناول نُسخه الحالية في المشرق.

على المستوى السياسي يكون الحراك الشعبي قد أسقط بالفعل نظام الحكم المؤسَّس على المتشابه من الديمقراطية في دستور 1989، حتى وإن لم تفكَّك بعد مؤسساته التي توظف اليوم – رغم أنفها- في تطهير “إسطبلات أوجيا” من الفساد والمفسدين، قبل أن ينهي مهامها الرئيسُ القادم بأيسر الطرق، حتى لو لم يبادر إلى إحداث تغييرات عميقة في الدستور، لأن الحاضنات التقليدية لتفريخ النخب السياسية الفاسدة قد جرفها الحَراك وسفَّه أحلامها بلا رجعة.

وعلى مستوى أداء مؤسسات الدولة، سوف يرث الرئيس القادم جهازا بيروقراطيا قد خضع لتطهير جزئي على يد السلطة المؤقتة، وما بقي من المفسدين فيه سوف يردعه حتما ما سيصدر من أحكام ضد الدفعة الأولى من الفاسدين في الجهاز التنفيذي، وفي الإدارات الكبرى، وشركائهم من الأوليغارك، ويكفيه أن يبقى على هذا القدر من الحماية للقضاء، ليشيع الردع المستدام لمفترسي المال العام.

غير أن أهمّ إنجاز تحقق للحراك هو في تعريته للمصدر الأول والأخطر للفساد في السياسة، والاقتصاد، والإدارة، وما تعرضت له الجزائر من نهب ممنهج للثروات، ومن استباحة معلنة لمؤسساته التعليمية، والثقافية، والإعلامية، ومن تخريب منهجي للوحدة الوطنية، ومن استهداف مفضوح لمكوِّنات الهوية الوطنية، هي مَواطن فسادٍ قائمة لم يتوقف عندها الحَراك وهو منشغلٌ برفع شعارات مبتذلة تطارد الظل بدل الفريسة.

قد يكون من اليسر استرجاع بعض الأموال المنهوبة، وربما تضييق الخناق على الفساد والمفسدين، وقد ينجح الرئيس القادم في إعادة التوازن للاقتصاد، في بلد ليس هو على عتبة الإفلاس، لكن البلد سوف يكون بحاجة إلى عقود من الجهد والاجتهاد لإعادة التوازن لمنظومتنا التربوية العالقة بالمشروع الاستعماري الجديد، كما هي عالقة مؤسساته البيروقراطية والتقنوقراطية بمنظومة قانونية مستنسَخة، تحوّل أطهر كوادر الدولة إلى محض وكلاء لمصالح المستعمِر القديم.

لست مهتما كثيرا بما عرضه المتنافسون حتى الآن من برامج ووعود بإصلاح الاقتصاد، وترقية الخدمات، ولا حتى في ما يُسوَّق من برامج إصلاحية للدولة، تحتاج بالضرورة إلى الوقت وإلى تشخيصٍ سليم لمَواطن العلة فيها، بقدر ما أنا مهتم باستعداد كل مترشح لوضع البلد على طريق التحرير الثاني للبلد من الهيمنة النيوكولونيالية الفرنسية، تكون جبهتها الأولى في ساحة المنظومة التعليمية، التي أعادت إنتاج دفعات متجددة من ورثة دعاة الاندماج، ومن كان يبحث عن الجزائر بين القبور، ويقاول اليوم بوجه سافر لكذبة “الفرنسية غنيمة حرب”.

لا سبيل إلى مقاربةٍ جادّة لتأسيس جمهورية ثانية حتى بتبني مقاربات جديدة لتوزيع عادل للسلطة والثروة، ما لم نحقق إجماعا وطنيا حول واجب استكمال تحرير البلد من هيمنة مخلفات وأعوان المستعمِر القديم، بإنجاز قطيعة ثقافية مع العهد الاستعماري: في اللغة، والثقافة، والتعليم، والإعلام، وفي سلوك إطارات الدولة، والكيانات الحزبية، وتنظيمات المجتمع المدني، تحتاج منا بالضرورة إلى تنشيط حَراكٍ مستدام، يُلزم الرئيس القادم وكل من يتولى الشأن العام، بإعلان البراءة من الولاء للعهد الاستعماري، ومواجهة حاضناته وأوكاره: في الإدارة، والتعليم، والثقافة، والإعلام، وفي ما فرّخ منه ليبيض ويصفر داخل تنظيمات المجتمع المدني وفي المشهد السياسي على السواء.

مقالات ذات صلة