-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

خلافة راشدة على منهاج النبوّة

خلافة راشدة على منهاج النبوّة

 الإنسان وحده من أفسد العيش بعافية فوق البسيطة، بخلاف الموجودات الباقية، فهي لا تزال في ناموسها على الفطرة الأولى، لم يمسسها ضرٌّ فيه إلا ضرٌّ تسبب فيه إنسان، عندما ضل عقله بعلم، فتجاوز الحد واشتط.

بوار النظم السياسية

نظم سياسية كثيرة متنوعة اجترحها بنو آدم لبعضهم بعضا، لم تسعد الحياة الجماعية للناس في أيّ دولة من الدول، إذ سرعان ما يدب فيها الاختلاف فتتمزق شذر مذر، الدكتاتوريات والديمقراطيات في ذلك سواء، مع تباين في الكيف والكم ليس أكثر.

ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن تلكم النظم كانت من بنات الفكر البشري، القاصر عقله عن الإحاطة بالمصلحة الحقيقية للحياة على الأرض، فتغلبه أهواؤُه في التقدير، ويرين على تصوراته الضعفُ الجبلي، وتتداخل الفلسفات والأيديولوجيات في فهمه للقضايا فيظن حقا ما هو فيه، إلى أن تتداركه العواقب بعد لأيٍ فيخيب ظنه ذاك إلى ظن آخر وهكذا دواليك، حتى يستوفي أجله، وتهلك الجماعة، ويفنى الجيل، ويستمرّ حبله ذلك على الجرار في دوامة متقلبة من الأنظمة والقوانين لا قرار لها على أي حال.

ما يمنع الناسَ من استجلاء جوهر الأفكار وعواقبها على حياتهم هو بساطة الثقافة التي يحملها أكثر هؤلاء، فالنظم السياسية تكون عادة من التعقيد والاتساع ما ينفق الدارسون أعمارهم فيه فما بالك بغيرهم. بل إن المتخصصين أنفسهم تنطلي عليهم المصلحة في هذا النظام أو ذاك إذا ما راموا تنظيرا أو نصحا لمن شاءه، ناهيكم عن خطورة كثير من هؤلاء المثقفين إذا ما بيَّتوا شرا بليل، فلبّسوا على الشعوب المصالح والمفاسد، كما هو شأن كثير من المثقفين “البيض” في دولنا الإسلامية حاليا، وكما هي طباع الناصحين من أرومة من استعمر قديما وحديثا.

نبوءة حديث شريف

أشير إلى جناية ثقافية جنيت على أمتنا لما طعمت منظوماتها التعليمية بكليات الحقوق، فنالت من الحظوة والاحتفاء ما حجب الأضواء على كليات الشرع الحنيف؛ ففي الأولى ما فيها من حقوق وعلوم سياسية أنتجها الغرب تدفقت على حياتنا العقلية تدفق بضائعه على الأسواق التجارية، فكلفنا بها أشد الكلف، وأعمى ألقُها الأبصارَ المشدوهة حتى كاد سنا برقها يذهب بالعقول؛ وفي الثانية اكتفاء وسكينة، ونور يبدد ظلمة موحشة وطريق سليمة، تقرأ في جنباتها صحفا محفوظة مكرمة، لم تبدل كلماتها الأيدي والأيام، وسنة صحيحة مشرفة، وثيقة الصلة بذلك الكتاب المقدس. قد جاء في بعض نصوصها حديث قاله المبعوث رحمة للناس تنبأ فيه بما سيكون، وقد كان، قسّم فيه الأنظمة السياسية قسمين: خلافة راشدة على منهاج النبوَّة، وملك عضوض، يندرج فيه كل ما أبدع عقل الإنسان لأخيه الإنسان من طرائق شتى في الإدارة والحكم.

قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: “تَكونُ النُّبوَّةُ فيكُم ما شاءَ اللَّهُ أن تَكونَ، ثمَّ يرفعُها اللَّهُ إذا شاءَ أن يرفعَها، ثمَّ تَكونُ خلافةٌ على منهاجِ النُّبوَّةِ، فيَكونُ ما شاءَ اللَّهُ أن يَكونَ، ثمَّ يرفعُها إذا شاءَ أن يرفعَها، ثمَّ يَكونُ مُلكًا عاضًّا، فيَكونُ ما شاءَ اللَّهُ أن يَكونَ، ثمَّ يرفعُها إذا شاءَ أن يرفعَها، ثمَّ تَكونُ خلافةٌ على مناهج نبوَّةٍ”. الحديث صحيح السند إلى النبي، ويعتبر نصا إعجازيا من نواح عدة؛ فهو يكشف أستار الغيب حتى اليوم الأخير من حياة هذا الكون، وفيه لمن أراد حكما راشدا معالم في الطريق دلت على أحسن الأنظمة السياسية لبني البشر صلاحا؛ وذلكم جوهرة ما في هذا الحديث المكتنز فضلا. وحسب الدارس للسياسة فرحا أن مصدر هذه المعلومة رب الأرض والسماء، القائل في ما أنزل: (ألا له الخلق والأمر تبارك الله أحسن الخالقين).

ما ران على قلوب كثير من الرواد في العصر الحديث، يحول دونهم ودون ما جاء في هذا الحديث من بشارة سعيدة، توفر مشاق تحمّلها الإنسان بجهله قرونا مديدة، ولا يزال هذا الظلوم يكابر ربه في ما بلّغه إياه، ماضيا في رحلة ابتداع وتجريب لا تعرف النهاية، (قتل الإنسان ما أكفره)!

ما الخلافة الراشدة؟

الخلافة الراشدة نظامٌ سياسي غير ثيوقراطي كما يحلو للبعض أن يخلط، هي “نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا به”، أي أنها ذات وجهين متلازمين، الأول كونها نظاما لا يخرج عن إطار التعاليم الإسلامية تفصيلا وإجمالا، والثاني دخول كافة الأمة في واجب القيام بها إجمالا لا تفصيلا، في ما يسمى “الشورى”، أي يجوز للمسلمين أن يجترحوا لأحوالهم آلياتٍ في تولية الخليفة بحسب ما عنّ لهم أو استجد. والأول آكد الوجهين في هذا العصر، الذي تمرد الناس فيه عن الخضوع لأحكام الدين جهلا وظلما، وقد كان الجانب الثاني آكد الوجهين في ما مضى، حين تحولت الشورى إلى ملك عضوض وإن بقيت أحكامُ الدين سائرة.

وكما أن الكتاب الكريم لم يفصِّل في آليات الشورى، فاسحا مجال الاجتهاد للعقل المسلم، فقد فعلت السنة المطهرة وأوصت بالعضّ على الأصلين الكريمين بالنواجذ، لأنهما العاصم لعقد الأمة من التشرذم حتى وإن استبدَّ بها ملكٌ جبري، في التفاتة واضحة إلى خطورة أن يكون الإسلام الذي آمنت به الشعوب مدعاة يوما ما للأخذ والرد، وتلكم نبوءة أخرى في هذا الحديث العجيب لما سيكون عليه حال الملة في ما بعد عصر النبوة.

مفارقات الثورات العربية

ستؤول الدعوات الملتهبة في الشارع إلى بوار مهما اشتدّت وتحوّلت إلى حَراك منظم أو ثورات، لأنّ جلّ اهتمامها كان المطالبة بتغيير جذري يطول الأشخاص وآليات التداول على السلطة، وتلكم مطالب لها صلة بالجانب الإجرائي من نظام الخلافة إذا ما جعلناها أساسا للتقويم والقياس. أما المطالب المتعلقة بالحرية والكرامة والعيش الكريم فتتسم بالميوعة لاشتراكها في المضمون مع المفاهيم الغربية المنبثقة من فلسفات مادية. وآيةُ ذلك أن كان بعض المطالبين بالتغيير عندنا لا يفتأ يذكر محاسن الدولة المدنية ذات الصبغة العلمانية، وتجدهم والمؤمنين بالله صفا واحدا، يرفعون لواءً واحدا، وينشدون شعارا واحدا؛ وتلكم مفارقة يُحسب لها ألف حساب في ميزان الخلافة الراشدة.

الخلافة لازمة للإصلاح

إن الحاجة ماسّة إلى طيِّ الطريق الطويل كي نصل إلى بر الأمان سراعا، والأمة في غنى عن هدر طاقات أرهقها السعي لإصلاح السياسة والسياسيين، الذين دربوا على مخاتلة الشعوب وتفننوا في سرقة الثورات من أهلها، وأحسب أن الله جل شأنه حرمنا من تأييده لما حرمنا أنفسنا من نصره، وما ذلك من قصة عيسى عليه السلام وحوارييه ببعيد، (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله، قال الحواريون نحن أنصار الله، فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة، فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين). تلكم هي المعادلة السياسية في التغيير المضمون عبر توالي الأيام وكرِّ الدهور.

بين الحياء والجرأة ضاعت التضحياتُ سدى، فقول بعضهم إن النداء بالإسلام في الشارع المناهض للاستبداد يؤلِّب العالم علينا محضُ تلبيس من إبليس، لأنك إن فعلت ذلك تجاذبتك قوتان: علوية مرجعها إلى الله ووعده بنصره شرط أن تطالب بالإسلام منهجا للحياة وفقا لأمره ونهيه؛ وسفلية تتكاتف فيها الأهواء والشياطين الجنية والإنسية، تعوق رقيَّك إلى السماء وتحاول إخافتك بأولياء من هنا وهناك، وذلك عين ما صنعت الأنظمة القمعية لما أحسَّت بدُنوِّ آجالها.

حركة طالبان الأفغانية كانت الأقرب ظفرا بقصب السبق نحو النظام السياسي المأمول عوده لقيادة الأمة نحو العزة والسؤدد؛ فقد قاتلت هذه الجماعة بشرف ومهارة، وصبرت على العقيدة والتضحية، حتى لاح في الأفق الرحيب النصر المؤزر. ولن يضيرها لو هجرها العالم كله واشتدّ عليها ظلم القطيعة وامتدّ، وقد ألقت برواسي السفينة إلى الله، إن شاء أمسكها وإن شاء أرسلها بريح طيبة، ما داموا قد تمثلوا بصدق وصبر قول من له الخلق والأمر: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • خالد

    قليل من يفهمك لأن دين الله ( منهج حياة الإنسان ) بات غريبا كما بدأ إلا أن يشاء الله.

  • د.أبو وائل

    أحسن الله إليك على هذا المقال الجرئ، المصاغ بطريقة منهجية واعية.