-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

خُلع سِياسي

خُلع سِياسي

يستعد اثنان وعشرون حاكما “عربيا” ـ أو ممثلوهم ـ الذين سلطهم الله على هذه الأمة الشقية بسببهم، التعيسة بسلوكهم، المهينة بزبانيتهم، الفقيرة بتبذيرهم؛ يستعدون لعقد مؤتمرهم ـ أو قمتهم كما يسمونها ـ في مدينة “سرت” الليبية…

لا لبحث قضايا الأمة، ولا لحل مشكلاتها؛ ولكن لقضاء يوم لمن تعجل، ويومين لمن لم يتعجل في الأكل والشرب ـ وإن كانت مِعَدُ أكثرهم غير صالحة ـ وفي “التشميس والتقصير” لقد مللنا هؤلاء الحكام حتى لم نعد نطيق رؤية صورهم، أو سماع أصواتهم. وما الذي يجعلنا نحب رؤيتهم، ونود سماعهم؟

لقد جاءوا إلى الحكم بطرق غير شريفة، وبأساليب غير نظيفة؛ فمنهم من جاء إليه على ظهر دبابة، ومنهم من جاء بانتخابات مزوّرة، تبدو أمامها انتخابات إدمون نيجلان (❊) ساذجة، ومنهم من جيء بهم من قوى أجنبية أو عُصب داخلية.

كيف لا نمل، بل لا نبغض من يُفترضُ فيهم الدفاع عنا والغيرة على كرامتنا من عصابات الداخل وإهانات الخارج فإذا هم أول الدائسين على هذه الكرامة، المنتهكين لها؟ إن المغتربين من أمتنا العربية في الدول الغربية لأكثر إحساسا بالكرامة ـ رغم العنصرية ـ منّا نحن الذين نعيش في وطننا العربي، وكيف لا نمل، بل لا نبغض من يُفترضُ فيهم التّعَبَ والنّصَبَ لضمان الحد الأدنى من المعيشة لأبناء أمتنا، فإذا هم يبنون لأنفسهم وأهليهم بكل ريع آيات لعلهم يخلدون، ويقيمون المهرجانات لتمجيد أنفسهم، والإشادة الكاذبة بمواهبهم، والتغني المنافق والمدفوع الأجر من مال الأمة بأعمالهم المغشوشة؟

لقد علمت أن أحد حكام العرب طلب من كاتب فرنسي أن يؤلف كتابا عن حرمه في مقابل مبلغ كبير من المال، ولكن ذلك الكاتب الفرنسي الذي له غيرة على اسمه اقترح أن يكون الكتاب عن دولة ذلك الحاكم والتطرّق في أثناء الكتاب لصاحبة العزّة..

لقد قص عليّ أحد الإخوة العرب نكتة هي أن “رئيس” بلده استدعى إبليس ليشير عليه بأساليب للمكر بشعبه، فكان كُلّمَا اقترح أسلوبا ومكرا ضحك الرئيس منه وقال: هذا مكر أكل عليه الدهر وشرب، وقد جرّبته.

فلما أفرغ إبليس ما في جعبته قال لـ”فخامة الرئيس”: ذلك مَبْلَغِي من المكر. فمال الرئيس على إبليس وهمس في أذنه بما يفكر فيه من مكر بشعبه، فإذا بإبليس يُولِي منه فرارا، وقد مُلئ رعبا، وهو يصيح: حرام عليك يا رجل، اتق الله.. إني بريء من هذا المكر.

لقد فكرتُ في كيفيةِ تَخَلُّصِ أمتنا من هؤلاء الحكام الذين أقعدهم الكبر والمرض، وأقسموا بـ(…) أن لا يغادروا كراسي الحكم، وأن يستميتوا دفاعا عن بقائهم عليها إلى أن يقبض أرواحهم مَلكُ الموت، أو يُطيحَ بهم غيرهم ممن ألهاهُم التكاثر..

فكرتُ أن أقترح على أبناء أمتنا الانتحار الجماعي يوم يعقد حكامنا مؤتمرهم، ولكنني رجعت عن هذا الاقتراح لأن الانتحار حرام، والمنتحر في النار، فنخسر بذلك الآخرة كما خسرنا الدنيا، ولخسران الآخرة أكبر.

وفكرت في أن أقترح على أبناء أمتنا “الحَرْڤَة” الجماعية، فعلمت أنها ممنوعة و”غير شرعية”، وأن الدول الأوربية كلفت حكامنا أن يكونوا حُرّاسا عليها يمنعون تدفقنا على تلك الدول، فإن امتنعوا هددتهم بكشف ما تعلمه عنهم من مخاز لا نعلمها.

وفكرت في أن أقترح على أبناء أمتنا الخروج الجماعي ـ يوم قمة حكامنا- إلى الشوارع للتظاهر ضدهم والإحتجاج عليهم، فعلمت أنهم احتاطوا لهذا الأمر، فسنوا قوانين للطوارئ، ولمنع المظاهرات ومن حدّثته نفسه بخَرْقِ القانون وُوجِهَ بحَرْقِ الكانون.

وفكرت في أن أقترح على أبناء أمتنا الإضراب عن العمل لمن يعملون وعن الطعام لمن لا يعملون، فعلمتُ أنه محرم في قوانين حكامنا وإن أقرّتهُ دساتيرهم. وأن الإضراب عندهم يُجَرَّدُ من المزيد فيصير ضَرْبًا بالسياط.

وبينما أنا مستغرق في التفكير، منشغل بالتدبير، سمعتُ صوتًا هاتفا يقول لي: هل أدلّك على اقتراح أفضل مما فكرتَ فيه؟

قلت: ذلك ما أبغى.

قال: اقتَرِحْ على هؤلاء الحكام “خُلعا”.

قلت: وماهو هذا “الخلع”؟

فقال: الخلع لغة: هو النزعُ، قال تعالى لموسى ـ عليه السلام ـ “فاخلعْ نعليك..”، واصطلاحا: هو أن تدفع المرأة نصيبا من المال إلى بعلها لعجزه، أو خرفِهِ أو سوء خلقه في مقابل أن يفسخ عقدة النكاح ويعطيها حريتها، ويطلق يديها.

فقلت: وهل هذا “الخلع” منصوص عليه في شريعتنا؟

فأكد وجوده بنص القرآن الكريم والسنة الشريفة، فأما النص عليه في القرآن فقد جاء في الآية الكريمة: »فإن خِفْتُم ألاَّ يُقِيمَا حدود الله فلا جُنَاحَ عليهما فيما افتَدَتْ به..« (البقرة: 229)، وأما النص عليه في السنة فقد ورد فيها أن جميلة بنت عبد الله ابن أبي جاءت إلى رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ وطلبت منه أن يفرق بينها وبين زوجها ثابت بن قيس بن شماس، قائلة: “أكره الكفر بعد الإسلام”.

فقال عليه الصلاة والسلام: “أتَرُدِّين عليه حديقته التي أعطاك؟”.

قالت: نعم وزيادة، فقال: “أما الزيادة فلا، ولكن حديقته (1)”.

قلتُ: وهل نحن (…) حتى نفعل هذا؟

قال: يبدو أن حالكم أسوأ.

قلت: إن هؤلاء الحكام لم يُعطونا شيئا، وما أخذه بعضنا إنما هي بعض أموالنا رُدّت إلينا، فلماذا نعطيهم ما ليس لهم؟

قال: لقد جادَلْتَنِي فأكثرت جِدَالي، ولا أجدُ مخرجا لكم من هذه المعاناة إلا هذا… مع ما فيه من “إهانة” مؤقتة لكم، وإلا فستبقون تحت نير هؤلاء الحكام الذين قال فيهم الشاعر أحمد مطر:

“ربما الماءُ يرُوب..

ربما يُحمَلُ زيت في الثقوب

ربما شمس الضحى تسطع من صوب الغروب

ربما يبرأ إبليس من الذنب، فيعفو عنه علاَّم الغيوب

إنما لا يبرأ الحكام في كل بلاد العرب من ذنب الشعوب”.

قلت: وماذا نسمي هذا الخلع؟

قال: أقترح تسميته “خلعا سياسيا”.

قلت: سأعرض هذا الاقتراح على أبناء أمتنا، فإن قبلوا شَرَعْنَا في تكوين لجان لجمع الأموال.

ما إن أنهيت جملتي حتى انفجر مُحدّثي ضاحكا. فقلت: ما يضحكك؟ قال: إنك لم تأتِ البيوت من أبوابها، فقبل أن تقترح ذلك على أبناء الأمة، اقترحه على الحكام. ولاشك في أنهم سيرفضونه، لأنهم يعتبرونكم وما تملكون لهم، ثم

أنسيتَ أن جمع الأموال محرّم في الدول العربية..؟

قلت: نشكو بلوانا من هؤلاء الحكام إلى ربّ الأنام، ونسأله أن يفرغ علينا صبرا حتى يمُنّ علينا بحكام نحبهم ويحبوننا، ويخدموننا ولا يستخدموننا.

❊) إدمون نيجلان: طاغية فرنسي، كان واليا عاما في الجزائر، ضُربَ به المثل في تزوير الانتخابات.

1) عن الخلع وأحكامه، انظر: التواتي بن التواتي. المبسط في الفقه المالكي.. دار الوعي. مجلد 4. ص 5/3 ـ 548.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
7
  • safie-dine

    والله لاتنطق إلا بالحكمة يااستاذنا،وإنا لاندري اشر اريد بمن في هذه الارض ام اراد ربهم بهم نفعا .

  • أبو شهاب

    شكرا لك أستاذنا لطالما شاهدتك في فضاء الجمعة و لكن لم أعرفك بهذه الروح الظريفة و النقدية بل الِّنصحية جزاك الله خيرا

  • عبد العزيز

    بارك الله فيك ياشيخ "محمد الهادي الحسني" لا فض فوك، جعلك الله دخراً لهذه الأمة ومن أمثالك كثر الله. جعل الله هذا الكلام التوعوي في صحيفة حسناتك. آمين

  • la tahzan

    شكرا سيدي الكريم على مقالك الجميل
    وشكرا لجريدة الشروق على منهاجها الجديد في جمع ثلة من المفكرين والكتاب الجزائريين والعرب , والأيام والتاريخ سيحكمان على مصداقيتهم ومصداقيتها
    بخصوص مقالك اليوم , كنت امني النفس أن يكون خاصا اكثر منه عام , وأن يكون دقيقا اكثر منه شموليا , وان يكون تقنيا أكثر منه عربيا , بحيث يأخذنا في الحديث عن كل قطر وكيف ان حاكمه وصل للكرسي , وكيف تمدد الولايات الرئاسية , وتحاك الحيل الشيطانية من اجل تفريق الأحزاب الوطنية و, وكيف تشترى الضمائر الوطنية لتصبح بوقا رخيصا في الجرائد الرسمية , وكيف يختفي صوت المعارضة في أعلامنا , وتصبح شاشتنا الوطنية القائمة بأموالنا ولا كنها ناطق رسمي باسم سعادة الرئيس في كل بلد عربي , مغلوبة وتصبح سكرتيرة الرئيس , تنطق بلسانه , وتضرب بيده , بل أصبحت جرائدنا هي عين الرئيس وربما مستقبلا قلبه الغالي حفظه الله ورعاه وسدد خطاه .
    اما عن الخلع
    فما وجب خلعه هو الرجولة في أجسامنا , فقد خلعنا العروبة من زمان , وبدلناها بالرعونة ,

  • اسامة الجزائري

    بالله عليك من اين لك كل هذا الفكر (مخ).يجب ان نثور على الاستبداد

  • عمار الجزائري

    ماذا تحكي يا سي محمد الهادي الحسني يبدو انك بلغت من الدهاء عتيا
    بالامس مؤرخ واليوم سياسي محنك وغد لك شأن أخر وكل ذلك باسلوب الدين . ومن قال لك ان اسلوبك هدا اصبح في خبر كان -
    الا تعلم بان الحضارة المتمدنة فعلت فعلتها في امثالك؟
    والفاهم يفهم -فالصعود على ظهر الاغبياء باسم الدين والديانات قدولى وماعليك الا بالانضمام الى فريق الحضارة المتمدنة .ام فاقو سمعت؟

  • Mohamed

    Salam.
    Il y a encore des gens qui pensent vouloir que ce peuple se suicide ou qu’on l'extermine? Et si on arrive déjà à penser jusque là, comme si on a rien appris de notre religion sauf de faire un nom.
    Ce film d’extermination a été réalisé pendant les années 90. Mais cette méthode a été mise en échec justement par Bouteflika. Le peuple maintenant connaît d'où viennent les manœuvres de la «fitna».
    « hakkoune ourida bihi batil (Ali rad’hiya a’llahou ânh)…
    Ils se cachent derrière l'islam et insulter les arabes pour faire apparaître leur instinct racial sans le dire.
    Merci d’avance. Et je vais suivre ce forum par curiosité avec ceux qui veulent donner leurs avis sur cet article.
    SVP, diffusez ce message !!! Comme ca, il n’y aura ni une démocratie d’un seul sens, ni une barrière à la liberté d’expression des citoyens.
    Salam.