-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
219 ضحية .. 1000 يعانون وينتظرون مصيرهم في صمت

داء السيليكوز يواصل الفتك بأبناء تكوت بسبب حرفة الموت

صالح سعودي
  • 473
  • 0
داء السيليكوز يواصل الفتك بأبناء تكوت بسبب حرفة الموت
أرشيف

يبدو أن مسلسل داء السيليكوز القاتل الذي بدأت أولى حلقاته المحزنة في جانفي 2001 مازالت طويلة، ما دام أبناء وشباب منطقة تكوت بباتنة، يمارسون حرفة صقل الحجارة، وآخر الضحايا هو الفقيد سلامي لخضر عن عمر ناهز 51 سنة، تاركا وراءه أرملة و5 يتامى، ما جعل عدد الوفيات يرتفع إلى 2019 ضحية، في الوقت الذي تشير الأرقام الأولية بان أكثر من ألف شخص يعانون في صمت وينتظرون مصيرهم، بعد أن أرهقتهم المتاعب الصحية، التي تؤدي بهم إلى صعوبة في التنفس قبل أن يصلوا مرحلة تفرض عليهم الاستنجاد بقارورات الأوكسجين في ظروف يصفها الكثير بالمأساوية.
تكوت بباتنة هي أسطورة ثورة رفضت الرضوخ دون النصر، هي تراث وإصلاح ومقاومة، منحت خيرة المجاهدين والقياديين خلال الثورة التحريرية، لا يمكن نسيان مصطفى بوستة أمين سر الثورة بالأوراس الذراع الأيمن لمصطفى بن بولعيد، وأعطت من العلماء الشيخ شباح والشيخ الصادق رحماني وغيرهم من رجال الإصلاح بالمنطقة، أما عن تراثها فيمكن ملاحظته في بنائها المعماري الضارب في لب التاريخ، لكنها للأسف في العقدين الأخيرين صارت تشمّ منها رائحة الموت الناجمة عن ممارسة حرفة صقل الحجارة التي تسببت في وفاة 219 ضحية سقطوا تباعا منذ مطلع الألفية، ما خلف عشرات الأرامل ومئات اليتامى الذين يواجهون متاعب الحياة في منطقة تعاني العزلة وغياب التنمية أو دعونا نسميها عاصة للظل.
صرخات الأطباء والمختصين الناصحة بتجنب حرفة الموت بقيت من دون صدى، لأن بعض أبناء المنطقة يرون صقل الحجارة ضمن تقاليدهم برغم نتائجها الأليمة، ما يجعلهم ينتشرون في مختلف مدن وولايات الوطن لكسب قوتهم بهذه الحرفة التي يؤكد الكثير بأن ضحاياها سيبقون في ازدياد، بدليل أن بعض التقديرات تشير بأن هناك حوالي 1000 شخص يعانون في صمت بعد ظهرت فيهم أعراض المرض الناجم عن تكلس في الرئة يؤدي بمرور الوقت إلى صعوبة في التنفس والكلام، ومتاعب في المشي، ليصلوا مرحلة اليأس بعد الاستنجاد بقارورات الأكسجين قبل أن أن يدخلوا موتا كلينيكيا، كما حدث لآخر ضحية لخضر سلامي الذي ترك وراءه أرملة و5 أطفال.

النزيف بدأ سنة 2001 ولم يتوقف
مجرد جرد بأسماء الوفيات وأعمار أصحابها يثير الهلع، بسبب مهنة صقل الحجارة المؤدية إلى داء السيليكوز فقد قرع الرقم 219 ضحية، خاصة في ظل الارتفاع المتزايد لعدد الوفيات والمصابين وغياب إجراءات فعالة من شأنها أن تنهي كابوس الموت الناجم عن هذه الحرفة والذي بدأ منذ مطلع الألفية الحالية. وكان أول الضحايا هو قمري أحمد من قرية شناورة عام 2001، حيث أصيب الفقيد بأولى ملامح هذا المرض مع نهاية التسعينيات وعجزت رئتاه عن النشاط بصورة طبيعية، ما جعله يطرق أبواب المستشفيات والعيادات العمومية والخاصة في أريس وباتنة وقسنطينة والعاصمة، ليلفظ أنفاسه في مستشفى بني مسوس بالعاصمة شهر جانفي 2001، فيما يعد شاطري جموعي ثاني ضحية في بداية أفريل من نفس السنة عن عمر ناهز 36 سنة، لترتفع الحصيلة إلى 45 ضحية خريف العام 2009، وازداد العداد بشكل متواصل خلال السنوات الأخيرة حتى وصل إلى 219 ضحية. وحسب بعض المعطيات فإن شبان قرية شناورة يحتلون نصف عدد الوفيات بداء السيليكوز، مقابل توزيع العدد الباقي على أحياء وقرى تكوت، مثل تادخت وزينون وعين البير وتيغزة إضافة إلى بلدية إينوغيسن. والملاحظ أيضا بأن أكثر من 40 بالمائة على الأقل من المتوفين متزوجون خلفوا أٍرامل وأطفالا يواجهون متاعب الحياة في منطقة تعاني العزلة والتهميش.

الفنان صالح لونيسي وأغنية الموت
ومن بين مآسي داء السيليكوز أنه مسّ مختلف الشرائح، خاصة فئة الشبان، على غرار الفنان المبدع صالح لونيسي الذي غنى داء السيليكوز وضحاياه وتوفي بسببه منذ عشر سنوات في ربيع العام 2013، حيث ترك أثرا عميقا بكلمات صادقة، حيث أكد سليم يزة بأن الفقيد رثى ضحايا السيليكوز بكلمات مؤثرة تزعزع كيان المستمع، كلمات لا يقوى على نحتها سوى من نحتته محنة المهنة المميت، مضيفا بأن أغاني صالح لونيسي هي صرخة حقيقية نابعة من شخص احترف مهنة صقل الحجارة كما احترف فن الغناء والعزف على الآلات الموسيقية، كل نغمة وكل كلمة خرجت من حنجرته هو لسان حال جميع من اكتووا من آلام الإبادة في حق أبناء تكوت.
وقال سليم يزة بأن الفنان الراحل صالح لونيسي حاضر دوما بصوته الدافئ الذي أرّخ لأزمة إنسانية، حيث يشرح في مقطع من الأغنية كيف يحضّر المصاب نفسه لمقابلة الموت، ومغادرة أحبته تاركا وصية، ويطلب من العزيزة الغالية أمه مخاطبا من خلالها جميع أمهات المرضى والضحايا أن يعوّدن قلوبهن على الصبر في فقدان فلذات أكبادهن. في المقابل اعتبرت الأستاذة لامية ساكري بأن الفنان الراحل صالح لونيسي ذنبه الوحيد هو الآخر أنه امتهن حرفة الآباء والأجداد (فن صقل الحجارة)، ولمن لا يعرفها حسب قولها فليزر كبريات المدن في الجزائر ليرى واجهات الفيلات مزينة بعرق وأرواح أبناء تكوت، علما أن الفنان صالح لونيسي وافته المنية يوم 8 ماي 2013 عن عمر ناهز 34 سنة، متأثرا بداء السيليكوز بمستشفى آريس بباتنة، وشكّل حينها الضحية رقم 100 منذ ظهور هذا الداء الفتاك بمنطقة تكوت وولاية باتنة عموما، وذلك منذ 10 سنوات، في الوقت الذي ارتفع الرقم منذ وفاته إلى أكثر من الضعف (219 ضحية).
في المقابل ترك الضحية رقم 185 سهيل لونيسي رسائل مؤثرة كتبها في مواقع التواصل الاجتماعي وتم تداولها بألم وحسرة، حيث أن آخر ما كتبه الفقيد وهو في مستشفى آريس: “كان أبسط أحلامي مستشفى وسرير وطبيب يقول فقدنا مريضا، حظيت بالمستشفى والسرور ولم يتبق للطبيب سوى أن يعلن الرحيل”، وقبل رسالة الوداع فقد كتب منشورات أخرى صبت في خانة الحزن والتأسف على واقع ضحايا حرفة صقل الحجارة، من ذلك عبارة “لا تحدثني عن المصيبة، حينما تكون المصيبة ليست مصيبتك”، وغيرها من المنشورات والكتابات التي أثرت كثيرا في نفسية مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي. أما سكان تكوت فقد رفعوا عدة شعارات منها: “شبابنا مريض وأصبح يقول.. أريد موتا كريما بين أهلي وبلدتي، تعبنا من السفر إلى المستشفيات خارج تراب الدائرة والولاية.. ما هذا الصمت، إلى متى هذه المعاناة”.

من يستمع لصرخات الأطباء ؟
يتعاقب رؤساء البلديات على تكوت ولكن لا شيء تغير، في غياب إستراتيجية واضحة لتخفيف المتاعب التي تلاحق المرضى ومقربيهم، حتى أن جهود الأطباء لم تجد حلولا شافية رغم المساعي القائمة على مستوى القطاع الصحي بتكوت، إضافة إلى نقل المرضى إلى عاصمة الولاية باتنة، ليبقى المطلب الرئيسي في نظر الأطباء هو ضرورة الوقاية والابتعاد نهائيا عن مزاولة نشاط حرفة الحجارة، خصوصا أنّ مرض “السليكوز” المميت لا يرحم الذين يشتغلون في هذا الميدان، لأن الإصابة به ناتجة أساسا عن انبعاث الغبار من الحجارة المنقوشة ليترسب في الرئتين، وهو ما يصعب مهمة العلاج، وتشير إحصائيات قام بها أطباء مختصون بباتنة، أنّ نسبة 50 بالمائة من الحرفيين الذين يقومون بنقش الحجارة، مصابون بمرض “السليكوز” بدرجات متفاوتة، ويزداد خطر الإصابة بمرض “السليكوز” لكون غالبية محترفي مهنة صقل الحجارة يعملون لحسابهم الخاص، وغير مصرح بهم لدى مصالح الضمان الاجتماعي، ما يجعلهم في وضعية صعبة للتكفل بهم من ناحية العلاج وبعائلاتهم بعد الوفاة، والأخطر هو أنّ أعراض الداء لا تظهر إلا بعد بلوغه مراحل متطورة وتعقد عملية التنفس.
من جانب آخر، وصل الدكتور بشير رحماني الذي كان مكلفا بمتابعة مرضى الحجارة إلى قناعة بأن شبان تكوت يبقون بين مطرقة الموت وسندان ممارسة المهنة، ما يتطلب حسب قوله ضرورة الوقاية والابتعاد نهائيا عن مزاولة هذا النشاط، خصوصا وأنّ أعراض داء السيليكوز لا تظهر إلا بعد بلوغه مراحل متطورة، مخلفة تعقيدات في عملية التنفس، علما أنّ عدد العاملين في هذه الحرفة يتعدى 1200 شخص، غالبيتهم يعملون لحسابهم الخاص وغير مؤمنين اجتماعيا، مما يعني خسارتهم في كل الاتجاهات وخسارة أهاليهم أيضا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!