الرأي

درسٌ‮ ‬آخر من شعبٍ‮ ‬واع

حسين لقرع
  • 2925
  • 0

قدّم الشعب التركي‮ ‬درساً‮ ‬جديداً‮ ‬للشعوب التوّاقة إلى الديمقراطية الحقيقية في‮ ‬انتخابات أول نوفمبر الجاري‮ ‬بمنحه الأغلبية المطلقة التي‮ ‬تمكّنُ‮ ‬حزب العدالة والتنمية من تشكيل حكومة لوحده،‮ ‬وبالتالي‮ ‬تفادي‮ ‬تعميق الأزمة السياسية التي‮ ‬بدأت فور ظهور نتائج التشريعيات الماضية التي‮ ‬جرت في‮ ‬7‮ ‬جوان الماضي‮.‬

آنذاك،‮ ‬شعر الناخبون الأتراك أن طموحات أردوغان قد كبُرت برغبته في‮ ‬الحصول على أغلبية الثلثين التي‮ ‬تمكّنه من تعديل الدستور ومنح رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة،‮ ‬فتوجّس خيفةً‮ ‬من ذلك،‮ ‬وشعر بأن الحُكم المطلق قد‮ ‬يعود إلى تركيا تحت ستار ديمقراطي‮ ‬شعبي،‮ ‬فأحجم الأتراك عن منحه أغلبية الثلثين التي‮ ‬يريدها لتعديل الدستور،‮ ‬ولا حتى أغلبية‮ ‬51‮ ‬بالمائة التي‮ ‬تمكّنه من تشكيل حكومة وحده،‮ ‬واكتفى بمنحه أغلبية بسيطة تجعله في‮ ‬حاجة إلى شركاء آخرين لتشكيل حكومة ائتلافية،‮ ‬ليُوصل إليه رسالة مفادها أنه لن‮ ‬يقبل بعودة الشمولية تحت أي‮ ‬غطاء،‮ ‬ولو كان الحاكمُ‮ ‬محبوباً‮ ‬وحقق لتركيا إنجازاتٍ‮ ‬تاريخية،‮ ‬لا سيما على الصعيد الاقتصادي،‮ ‬بعد أن ارتقى بها إلى المرتبة الـ17‮ ‬عالمياً‮ ‬في‮ ‬مصاف الاقتصاديات العالمية الكبرى‮. ‬فكلّ‮ ‬ذلك ليس ذريعة لنزوع أردوغان نحو نوع من الاستبداد الذي‮ ‬عانى منه الشعبُ‮ ‬التركي‮ ‬طويلاً‮ ‬على أيدي‮ ‬العسكر‮.‬

واليوم شعر الشعبُ‮ ‬التركي‮ ‬بأن إعادة الكرّة في‮ ‬انتخابات أول نوفمبر الجاري‮ ‬ومنح أردوغان أغلبية بسيطة،‮ ‬يعني‮ ‬تعميق الأزمة السياسية في‮ ‬ظلّ‮ ‬رفض باقي‮ ‬الأحزاب التركية العمل معه بذريعة أنه إسلاميّ‮ ‬إخوانيّ،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن تعميق الأزمة الأمنية وتقوية حجج الأكراد الذين عادوا إلى حمل السلاح ضد السلطة،‮ ‬إضافة إلى أن هذا الوضع سيخدم‮ “‬داعش‮” ‬أكثر في‮ ‬تركيا،‮ ‬وهو أمرٌ‮ ‬يهدّد سياحتها في‮ ‬الصميم،‮ ‬وهي‮ ‬التي‮ ‬تدرّ‮ ‬عليها سنويا أكثر من‮ ‬30‮ ‬مليار دولار‮… ‬فكانت النتيجة أن أقدم الأتراك على منح أردوغان أغلبية مريحة هذه المرة تجعله‮ ‬يشكّل الحكومة وحده كما اعتاد منذ عام‮ ‬2002‮ ‬ويتحمّل مسؤولية تسيير الاقتصاد وتوفير الأمن لهم دون عوائق وابتزازات حزبية،‮ ‬ولكنه لم‮ ‬يمنحه أغلبية الثلثين التي‮ ‬يريدها لتعديل الدستور‮.‬

هو درسٌ‮ ‬آخر من شعبٍ‮ ‬واع‮ ‬ينبغي‮ ‬أن تتعلّم منه مختلفُ‮ ‬شعوب العالم الثالث التي‮ ‬عادة ما‮ ‬يأسرها الحاكمُ‮ ‬القويّ‮ ‬بشخصيته الكاريزماتية،‮ ‬فتمنحه ما‮ ‬يريد دون شروط‮.‬

ومن حُسن الحظ،‮ ‬أن هذا الدّرس‮ ‬يأتي‮ ‬من شعبٍ‮ ‬مسلم،‮ ‬ما‮ ‬يُعدّ‮ ‬دليلاً‮ ‬قاطعاً‮ ‬على إمكانية نجاح الديمقراطية في‮ ‬البلدان الإسلامية،‮ ‬في‮ ‬شقّها المتعلق باختيار الحكّام وعزلهم،‮ ‬إذا ما مُنحت الكلمة للشعوب فعلاً‮ ‬في‮ ‬انتخابات نزيهة وديمقراطية،‮ ‬خلافاً‮ ‬لِما تحاول الأنظمة الاستبدادية العربية الترويج له باستماتة،‮ ‬من أن الديمقراطية لا تصلح لشعوبها،‮ ‬وأنها لا تفهم إلا لغة العصا،‮ ‬وبثّت عيونَها في‮ ‬المقاهي‮ ‬والأماكن العامة لترديدها بشكل ماكر أمام عامّة الناس،‮ ‬وسلّطت أبواقها الإعلامية ومثقفي‮ ‬البلاط للترويج لها،‮ ‬حتى تشيع هذه المقولة و”تؤمِن‮” ‬بها الشعوب وتُسلِس القيادَ‮ ‬لحكّام مستبدّين فاسدين‮ ‬يحتكرون الحكم ويورّثونه إلى‮ ‬غيرهم كما تُورّث المزارعُ‮ ‬الخاصة‮.‬

شكراً‮ ‬للشعب التركي‮ ‬المسلم الذي‮ ‬ردّ‮ ‬على المستبدين في‮ ‬الوطن العربي‮ ‬بما‮ ‬يدحض مزاعمهم؛ فتركيا وتونس وماليزيا وإندونيسيا وبلدان إسلامية أخرى‮… ‬هي‮ ‬الشموع التي‮ ‬توقد في‮ ‬هذا الظلام العربي‮ ‬الاستبدادي‮ ‬الدامس‮.   ‬

مقالات ذات صلة