درسٌ آخر من شعبٍ واع
قدّم الشعب التركي درساً جديداً للشعوب التوّاقة إلى الديمقراطية الحقيقية في انتخابات أول نوفمبر الجاري بمنحه الأغلبية المطلقة التي تمكّنُ حزب العدالة والتنمية من تشكيل حكومة لوحده، وبالتالي تفادي تعميق الأزمة السياسية التي بدأت فور ظهور نتائج التشريعيات الماضية التي جرت في 7 جوان الماضي.
آنذاك، شعر الناخبون الأتراك أن طموحات أردوغان قد كبُرت برغبته في الحصول على أغلبية الثلثين التي تمكّنه من تعديل الدستور ومنح رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة، فتوجّس خيفةً من ذلك، وشعر بأن الحُكم المطلق قد يعود إلى تركيا تحت ستار ديمقراطي شعبي، فأحجم الأتراك عن منحه أغلبية الثلثين التي يريدها لتعديل الدستور، ولا حتى أغلبية 51 بالمائة التي تمكّنه من تشكيل حكومة وحده، واكتفى بمنحه أغلبية بسيطة تجعله في حاجة إلى شركاء آخرين لتشكيل حكومة ائتلافية، ليُوصل إليه رسالة مفادها أنه لن يقبل بعودة الشمولية تحت أي غطاء، ولو كان الحاكمُ محبوباً وحقق لتركيا إنجازاتٍ تاريخية، لا سيما على الصعيد الاقتصادي، بعد أن ارتقى بها إلى المرتبة الـ17 عالمياً في مصاف الاقتصاديات العالمية الكبرى. فكلّ ذلك ليس ذريعة لنزوع أردوغان نحو نوع من الاستبداد الذي عانى منه الشعبُ التركي طويلاً على أيدي العسكر.
واليوم شعر الشعبُ التركي بأن إعادة الكرّة في انتخابات أول نوفمبر الجاري ومنح أردوغان أغلبية بسيطة، يعني تعميق الأزمة السياسية في ظلّ رفض باقي الأحزاب التركية العمل معه بذريعة أنه إسلاميّ إخوانيّ، فضلاً عن تعميق الأزمة الأمنية وتقوية حجج الأكراد الذين عادوا إلى حمل السلاح ضد السلطة، إضافة إلى أن هذا الوضع سيخدم “داعش” أكثر في تركيا، وهو أمرٌ يهدّد سياحتها في الصميم، وهي التي تدرّ عليها سنويا أكثر من 30 مليار دولار… فكانت النتيجة أن أقدم الأتراك على منح أردوغان أغلبية مريحة هذه المرة تجعله يشكّل الحكومة وحده كما اعتاد منذ عام 2002 ويتحمّل مسؤولية تسيير الاقتصاد وتوفير الأمن لهم دون عوائق وابتزازات حزبية، ولكنه لم يمنحه أغلبية الثلثين التي يريدها لتعديل الدستور.
هو درسٌ آخر من شعبٍ واع ينبغي أن تتعلّم منه مختلفُ شعوب العالم الثالث التي عادة ما يأسرها الحاكمُ القويّ بشخصيته الكاريزماتية، فتمنحه ما يريد دون شروط.
ومن حُسن الحظ، أن هذا الدّرس يأتي من شعبٍ مسلم، ما يُعدّ دليلاً قاطعاً على إمكانية نجاح الديمقراطية في البلدان الإسلامية، في شقّها المتعلق باختيار الحكّام وعزلهم، إذا ما مُنحت الكلمة للشعوب فعلاً في انتخابات نزيهة وديمقراطية، خلافاً لِما تحاول الأنظمة الاستبدادية العربية الترويج له باستماتة، من أن الديمقراطية لا تصلح لشعوبها، وأنها لا تفهم إلا لغة العصا، وبثّت عيونَها في المقاهي والأماكن العامة لترديدها بشكل ماكر أمام عامّة الناس، وسلّطت أبواقها الإعلامية ومثقفي البلاط للترويج لها، حتى تشيع هذه المقولة و”تؤمِن” بها الشعوب وتُسلِس القيادَ لحكّام مستبدّين فاسدين يحتكرون الحكم ويورّثونه إلى غيرهم كما تُورّث المزارعُ الخاصة.
شكراً للشعب التركي المسلم الذي ردّ على المستبدين في الوطن العربي بما يدحض مزاعمهم؛ فتركيا وتونس وماليزيا وإندونيسيا وبلدان إسلامية أخرى… هي الشموع التي توقد في هذا الظلام العربي الاستبدادي الدامس.