-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أمريكا لا تصلح للوعظ في حقوق الإنسان

أمريكا لا تصلح للوعظ في حقوق الإنسان

“إذا لم تستح فأصنع ما شئت”، لعلّه المثل العربي الأنسب للتعبير عن حال الولايات المتحدة الأمريكية مع حقوق الإنسان هذه الأيام، ذلك أن واشنطن لم تكتف بالتورط في القتل الهمجي المباشر للفلسطينيين، بدعم سلطة الكيان الصهيوني علنًا، بل راحت، وبكل وقاحة دبلوماسية، ترفع صوتها بالوعظ الدولي في قضايا الحقوق الإنسانية.
في عزّ العدوان الوحشي على غزة، والذي شاركت فيه أمريكا عمليّا بتوقيع وتنفيذ أكثر من 100 صفقة مبيعات سلاح لـ”إسرائيل” منذ 7 أكتوبر، لإسنادها في مواصلة الإبادة الجماعية، لم تجد واشنطن حرجًا أخلاقيّا أمام العالم في إصدار تقرير خارجيتها السنوي، لرصد وضعية حقوق الإنسان المفترى عليها، عبر 200 دولة فوق خارطة المعمورة.
وعندما سُئل أنتوني بلينكن، قبل أيام، عن ممارسة “ازدواجية المعايير” في إسقاط القانون الأمريكي على انتهاكات الجيش الإسرائيلي لحقوق الإنسان والحيوان والطبيعة والبيئة وكل شيء في غزة، زعم الرجل بكل صلافة وجه أن “المعيار نفسه ينسحب على الجميع، سواء كان البلد المعني خصمًا أو منافسًا أو صديقًا أو حليفًا”.
هكذا يخاطب الأمريكيون الآخرين بكل استخفاف واستغباء واستعلاء، غير مبالين بأحكامهم، طالما أنّ المجتمع الدولي تحكمه القوة وحدها، وأمريكا هي “عضلات العالم”، مثلما قالها كولين باوْل عام 2003، أمام أعضاء الكونغرس، دفاعًا عن غزو العراق.
قد يتفهم الجميع تحالف الأمريكيين مع الصهاينة، لاعتبارات عقائدية وسياسية وتاريخية واستراتيجية، ومن أبرزها كذلك البُعد النفسي التمثّلي لحالة الاستعمار الاستيطاني، لأنّ الغزاة البيض، الوافدين من أوروبا بعد اكتشاف كريستوفر كولمبس للعالم الجديد، أسّسوا الدولة الأمريكية الحديثة على جماجم الهنود الحمر، في واحدة من أبشع جرائم الإبادة عبر التاريخ البشريّ، فمن “الطبيعي” أن يكونوا حاليّا إلى جانب المُهجّرين الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني، صاحب الأرض الأصلي.
أما أنْ تنبري أول دولة على السجل العالمي الأسود في تجاوز حقوق الإنسان، لتقييم وضعيتها على النطاق الدولي ونصْب المحاكم الأخلاقيّة للآخرين، فهذه غطرسة كونيّة غير مسبوقة، لن تمحو صورة واشنطن القاتمة في الذاكرة البشريّة.
ليت الأمريكيين كانوا جادّين في تبنّي نظرية “القوة الناعمة” التي ابتدعها قادة الفكر السياسي والفلسفي عندهم، للحفاظ على ريادة الولايات المتحدة بأقلِّ التكاليف، وجعلها قوة جذب للشعوب الأخرى، من خلال ترويج تجربتها الحضارية والمدنية والاقتصادية والعلمية والديمقراطيّة، كما رسمها جوزيف ناي، لكنهم أثبتوا سريعًا أنّ ما يؤمنون به هو “القوة الصلبة” دون غيرها، والباقي كله شعارات جوفاء لتبرير العدوان الدولي في كل مكان.
وبهذا الصدد، تشير التقارير المتخصصة إلى أن الولايات المتحدة نفذت منذ بداية القرن الـ21 عمليات عسكرية في 85 دولة باسم “مكافحة الإرهاب”، خلّفت ما لا يقل عن مليون ضحية مدنيّة ونزوح 38 مليون شخص، كما فرضت عقوباتٍ أحادية الجانب على أكثر من 20 دولة، ما أدّى إلى أزمات إنسانية بفعل العجز عن توفير الغذاء والدواء الأساسين للحياة.
وليس ببعيد عن الأذهان، ما نفذته إدارة المحافظين الجدد المتصهينة في أفغانستان عام 2002 باحتلاله تحت ذريعة مطاردة تنظيم “القاعدة”، ليقف العالم إثرها مشدوهًا أمام الصور الفظيعة لما حدث في سجن غوانتانامو، بينما اكتشف الناس لاحقا، من خلال مذكرات ساستها وحلفائها في الخليج العربي، أنّ أمريكا شكلت التنظيم في بدايات النشأة وجهّزته لأغراض وظيفية.
أما في العراق وليبيا واليمن، فقد تدخلت الولايات المتحدة بكل الأسلحة المحرمة، من دون تفويض من الأمم المتحدة، في خرق واضح للقانون الدولي، وكانت وراء الرعاية الرسمية لمجموعات “داعش” و”النصرة” في سوريا لإسقاط بشار الأسد.
ولا غرابة في كل ذلك، إذا علمنا، وفق التوثيق الدقيق، أن تاريخ أمريكا أسود في شنّ الحروب الظالمة، إذ قضت 93 % من عمرها المعاصر (نحو 222 من 250 سنة) في خوض الحروب المختلفة على دول أخرى واحتلالها عبر أنحاء العالم، بمعدّل 90 عدوانًا، ما يرفعها إلى القائمة السوداء للقوى الإمبراطورية الأكثر انحطاطًا أخلاقيًّا عبر التاريخ.
لقد ظلّ الكثيرون يتغنون بتقديس حقوق الإنسان في داخل أمريكا، تلميعًا لصورتها الكالحة خارج الحدود، لكن ما يجري منذ سنوات يؤكد أنّها لم تكن يومًا نموذجًا في هذا المجال، بل إنها صارت من أكثر الأقطار فظاعة في امتهان الحقوق الآدمية.
وخير دليل على ذلك ما يتعرض له طلاب الجامعات الأمريكية مؤخرا، من قمع أمني رهيب خارج القانون، بسبب اعتراضهم على الحرب الآثمة في غزّة، ومطالبتهم بقطع العلاقات الأكاديميّة والإداريّة مع جامعات الكيان العنصري الإسرائيلي، حيث لم يعد هناك أي معنى لشعارات حرية التعبير والرأي والتجمّع.
وحتى الديمقراطية الانتخابيّة، التي يسوّق لها المنبهرون من بني جلدتنا، ثبُت أنها صوريّة خادعة، ومحكومة بتدفقات “الأموال السوداء” لكبرى الشركات واللوبيّات، إلى درجة أنّ 69 في المائة من الأمريكيين يرون أنها معرّضة لـ”خطر الانهيار” و86 في المائة منهم يقولون إنها تواجه “تهديدات خطيرة للغاية”، حسب تقارير أمريكية موثوقة.
كما تتصدر أمريكا عالميّا حيازة السلاح وجرائم القتل المسلحة وحوادث إطلاق النار الجماعي، ما أسفر عن قتل وإصابة 80 ألف شخص عام 2022، ما دفع بالناشطين الحقوقيين إلى الشكوى من تنامي العنصرية ومعاناة الأقليّات العرقية من توسّع التمييز وارتفاع جرائم الكراهية.
لأجل ذلك كلّه، على الأمريكيين الكفّ عن توزيع الإنذارات ضد مُخالفيهم في العالم مقابل منح صكوك الغفران لمُواليهم، بخصوص حالة حقوق الإنسان، لأنهم ببساطة يفتقدون إلى شهادة حسن السلوك.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!