الرأي

دور النشر: الإستغلال البشع!

ح,م

موضوع استغلال دور النشر للمؤلفين في كل أنحاء العالم ليس جديدا. ويعرف كل من ربطته صلة بالنشر الكيفيات “القانونية” والملتوية التي يلجأ إليها الناشر ليحقق أضخم الأرباح على حساب المؤلف والقارئ معًا. لا نودّ هنا التطرق إلى الناشر الجزائري ولا إلى الناشر في بلدان العالم الثالث بل نريد الإشارة إلى بعض ما يحدث عند كبريات دور النشر العالمية. وسنكتفي بذكر داريْن، الأولى هولندية والأخرى ألمانية.

2150 دولارا لبحث واحد!

من كبريات دور النشر العالمية العريقة دار “إلْسفيَر” Elsevier الهولندية-البريطانية التي تأسست عام 1887. تحتكر هذه الدار نشر نحو 2000 (ألفيْ) مجلة أكاديمية عالمية. وقد وُجّهت إليها عام 2012 سِهام الجامعيين بتهمة احتكار سوق المجلات وفرْض أثمان باهظة تجاوزت حدود المعقول. ونجم عن ذلك نقاش واسع حول ما يسمى “سعر المعرفة”. وتمت مقاطعة المؤسسة من قبل أكثر من 10 آلاف باحث، وكذا العديد من مكتبات الجامعات (منها جامعة هرفارد الأمريكية). فقد حققت الشركة عام 2009 مثلا أرباحا بلغت 1,1 مليار دولار!!
ومن بين الشخصيات المؤثرة التي كان لها دور فعال في هذه المقاطعة عالم الرياضيات الحاصل على ميدالية فيلدز عام 1998 تيموثي غُورس Timothy Gowers، الأستاذ بجامعة كمبردج. وأدت المقاطعة إلى إعادة النظر في اتفاقيات الدار مع عدد من المكتبات الجامعية التي تشتري منتوجها من خلال الاشتراك في مجلاتها (الاشتراك الورقي و/ أو الإلكتروني).
ومن الممارسات التي لجأت إليها بعض الجامعات لكسر احتكار دور النشر أنها تطلب من أساتذتها وضع أبحاثهم في مواقع مؤسساتهم لينفذ إليها مجانا كل من يريد الاطلاع عليها. لكن الكثير من المجلات تمنع هذه الممارسة على من ينشر فيها … بل تطلب من المؤلف مبلغا ماليا محددا إن أراد القيام بذلك. وقد وصل هذا المبلغ إلى 2150 دولارا للبحث الواحد!
والغريب أن يتزايد ثمن الاشتراك في تلك المجلات في الوقت الذي تتناقص فيه جهود النشر وتكاليفه بفضل التقنيات الحديثة التي تجعل المؤلف هو الذي يقوم حتى بالمهام التقنية. وأحيانا فدَوْر الدار لا يزيد عن وجود ختمها أو شعارها على المجلة. وقد أسال هذا التناقض الكثير من الحبر خلال السنوات الأخيرة حتى أن أحد الباحثين انتفض وكتب مقالا بعنوان “لن أنشر أبدا بعد اليوم مقالا في مجلة علمية”!

35 أورو لمقال بـ4 صفحات

يعود تاريخ تأسيس الدار الألمانية “شبرينجر” Springer إلى عام 1842 (أي قبل 170 سنة) علما أن تقنيات نشرها لا تُضاهى في المجال العلمي. لذا يقصدها الكثير من المتعاملين العلميين، فهي تشرف على أكثر من 2900 مجلة (نحو 2500 منها باللغة الإنكليزية و 200 بالألمانية…). كما أصدرت وتصدر مئات آلاف الكتب في شتى فنون المعرفة. وقبل 3 سنوات أدمجت معها الدار البريطانية “ماكميلن” Macmillan العريقة التي تأسست عام 1843، وحافظت الشركتان على الاسم “شبرينجر” أو ” شبرينجر نيتشر”.
وما لفت انتباهنا في موضوع جشع هذه الدار أن أحد أعضاء أكاديمية العلوم الفرنسية، وهو الأستاذ إتيان جيس Etienne Ghys الذي له صيت عالمي في مجال الرياضيات، قد أصدر مؤخرا كتابا بالأنكليزية تحت عنوان “نزهة رياضياتية متفرّدة” يقع في 310 صفحة. ولما كان هذا العالم معروفا بتعففه فقد وضع نسخة كتابه الإلكترونية مجانا في موقعه بحيث يمكن لأيّ كان تحميله كاملا. كما تبنّت المؤسسة التي ينتسب إليها (وهي المدرسة العليا للأساتذة، ليون، فرنسا) الكتاب وعرضت نسخته الورقية لمن يريد اقتناءها بسعر 27 أورو لا أكثر! وهذا فعلٌ جميل جدًا تستحق عليه المؤسسة الفرنسية والمؤلف كل الثناء.
وإثر صدور الكتاب، نشرت مجلة Intelligencer Math. (“المتحرّي الرياضياتي”) التابعة لدار “شبرينجر” في عددها الصادر هذا الشهر عرضا له. ورَدَ عرض الكتاب باللغة الأنكليزية ضمن المجلة المذكورة في 4 صفحات لا أكثر. وإن أردت الاطلاع على هذه الصفحات في نسختها الإلكترونية عبر الموقع فعليك دفع مبلغ 34.95 أورو بالتمام والكمال!!!
وهكذا لم تجد دار “شبرينجر” الألمانية، ولا مجلتها، حرجا في أن تبيع صفحات العرض الأربع بهذا المبلغ الذي فيه من الإسراف ما لا يقبله عقل سليم… في الوقت الذي أهدى فيه صاحب الكتاب (310 صفحات) مؤلًفه لكل القراء بالمجان وفي الوقت الذي توفر فيه مؤسسته النسخة الورقية للكتاب بسعر (27 أورو) يقلّ عن سعر صفحات العرض الأربع بـ 8 أورو!!
ولعل القارئ يعتقد أن الـ 34.95 أورو ستذهب إلى جيب كاتب العرض. لا، أبدا ! لأن كتّاب المقالات العلمية في المجلات من هذا القبيل لا يتقاضون أجرا.
لو أقدم أحدهم من العالم الثالث على مثل هذا العمل الشنيع الذي أقدمت عليه المجلة الأوربية لصُنّف المسكين في فئة الجهلة وأعداء البشرية بحكم أنه يمارس تجارة (بالعلم) غير شريفة تلحق أضرارا جسيمة بالإنسانية وبازدهار حضارتها على مدى متوسط. أما أن يقوم بذلك أوروبي أو أمريكي فهذا ما قد يجد له منافقو الغرب ألف مبرر!
كيف نستغرب -وقد تمادت كبريات دور النشر العالمية في عمليات نهب بشعة في حق المؤلفين والقراء- من أن يعمل بعض القراصنة من العالم الثالث ومن “المعسكر الاشتراكي” سابقا على ضرب هذه العمليات الملعونة بتوفير تلك المقالات مجانا لكل القراء مثل ما يقوم به موقع sci-hub؟ … وقد وفّر لنا هذا الموقع بالمجان ذاك العرض الباهظ الثمن وغيره من البحوث بنقرة واحدة!
فَتَحيّة للقراصنة من هذا القبيل الذين يعملون، رغم أنْف المحتكرين الغربيين المُدَّعين، على نشر العلم والمعرفة متحمّلين مخاطر المتابعات القانونية والمحاكمات والسجون الغربية.

مقالات ذات صلة