الرأي

رئيس الجمهورية بين الأحلام والواقع..!

ح.م

 مع العدّ التنازلي لترشيحات الانتخابات الرئاسية، كثر المتهافتون على قصر المراديّة، ما فتح النقاش واسعًا حول جديّة المحطة وما يقتضيه من جدل حول ملامح الرئيس المناسِب للجزائر في هذه المرحلة.

وبذلك برزت ثنائية الشيوخ والشباب أو الاختيار بين “العلبة القديمة” والتشبيب، مثلها معادلة المرشح الأكاديمي أو المثقف المستقل، مقابل الشخصيات الحزبية والعموميّة.

لكنّ الحقيقة هي أن السجال في الموضوع نزع في كثير من الحالات نحو مغالطات كبيرة لا تنسجم مع الواقع الجزائري، ذلك أن فكرة دعم الشباب أو المرشحين الأحرار تبدو جذابة، وتستهوي الكثير بمنطق انتقامي من الطبقة السياسية التقليديّة، غير أنّ محاولة إسقاطها نظريّا دون مراعاة للخصوصية المحليّة، تذكّرنا باستيراد المذاهب الغربيّة خلال القرن العشرين في عديد المجالات، وتبنّيها من أنظمة المنطقة العربية، قبل أن تُصدم بخيبة أمل كبيرة.

وبشيء من التفصيل نوضح أن ظهور مرشح شاب ومؤهَّل لقيادة بلدٍ بحجم الجزائر لن يأتي من الفراغ، ولا يمكن أن تفرزه عواطف الجمهور، بل هو نتيجة تنشئة سياسية ونضالية طويلة في مناخ عام مفتوح الفرص للجميع بتكافؤ، وطاهر من التلوُّث السياسي والفساد الأخلاقي الذي نخر الكيانات المجتمعيّة على أنواعها، زيادة على ضرورة حيازة تجربة إدارية تدرجية في مواقع المسؤولية لإدارة الشأن العام، فضلا عن باقي الشروط الذاتية.

بصراحة: هل وفرت الجزائر تلك الشروط الإجباريّة لبروز رئيس شابّ بعد ثلاثين سنة من التصحير الناجم عن غلق اللعبة التعدديّة؟ لا نعتقد ذلك ولا نراه قريبا، لأنّ مشروع التشبيب ليس هدفا في ذاته، بل هو وسيلة ضمن آليات التغيير، فإن لم يكن مأمونًا فهو مغامرة عاطفيّة، بل هو استخفافٌ بثقل الأمانة.

وعليه، يصبح الملاذ العقلاني هو البحث في رصيد الجزائر عن إطارات دولة مخضرمين لقيادة السفينة ولو مؤقتا، دون أن نعني أي شخص، بل تهمّنا الصفة.

أما مسألة صناعة الرئيس الحرّ، من النخبة الأكاديمية أو الثقافية أو الإعلامية وسواها، فهي أخطر في التضليل من فكرة الدفع بقائدٍ شابّ، إذ يجب أن نتفق أنّ المنافسة تخصّ منصب رئاسة الجمهورية، بكل ثقلها الدستوري والسياسي والدبلوماسي والأمني والإداري والاقتصادي والإقليمي وحتى الدولي، وما تستوجبها من تجربة وحنكة ودراية بالملفات والإطارات والصراعات وتدافع المصالح، في دولة عنوانها الجزائر، بكلّ رهاناتها وتاريخها وموقعها الجيو-إستراتيجي.

وفي تلك المعمعة الصاخبة لا تنفع الظواهر الصوتية ولا الأقلام الإبداعية ولا الشهرة المدوِّية ولا الثقافة النظرية، بل هي مسؤولية عليا تحتاج أسد دولة يجابه كل التحديات والمعارك باقتدار.

رجاءً لا تذكروا لنا نموذج “قيس سعيَّد”، لأن الرجل لم يمارس السلطة بعدُ، ولنترك الزمن لنحكم عليه إن أصبح رئيسا لتونس، ثم إنّ الرجل ليس مرشحًا أكاديميّا أو مثقفا بالمفهوم التقليدي، بل هو مناضلٌ سياسي وحقوقي وطني وقومي وعالمي، حارب لعقودٍ ضد النظام التونسي، وبالتالي فإن الوصف الأنسب له هو “المرشح المستقلّ”، فهل ترقى عشرات الأسماء المغرورة اليوم في المشهد الانتخابي عندنا إلى نموذج “قيس”؟

الخلاصة، هو أنّ رئيس الدولة قضيّة مصيرية في أيِّ بلدٍ مهما كان حجمُه، فكيف إن تعلّق الأمر بالجزائر، لا تناقَش بالعواطف والأهواء والمشاعر والحب والإعجاب، ولا يُختار على طريقة التصويت التلفزيوني في برامج الواقع العربية، بل تدرس بواقعية وعقلانية وحكمة، إذ أنّ بين الأحلام والواقع مسيرة عقود تفصلنا عن بلوغ تجربة الأمم المتمدنة، فلا نقفز فوق حبال الخيال، حتى لا يخلصنا اشتراط الشهادة الجامعية في قانون الانتخابات الجديد من تهريج الأميّين ليُوقعنا في كرنفال جنون العظمة!

بما أنّ هؤلاء الطامعين لم يجرؤوا من قبل على الترشح في بلدياتهم، ليكونوا رؤساء للمجالس المحلية، فيختبر المواطنون قدراتهم الخلاقة في إدارة الشأن العام، ونعرف نحن مدى صلاحيتهم للولاية العامّة، فإنّ الأوْلى بالمؤهّلين منهم، إنْ وُجدوا، أنْ يجعلوا من الاستحقاق الرئاسي القادم محطة نحو المستقبل لبناء مشروع سياسي جادّ، حتّى يجرّبوا العمل الميداني، بعيدا عن الأضواء، قبل الاستعداد لجولات جديدة من الكر الانتخابي في قادم العقود.

مقالات ذات صلة