-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

رحيل محمد عمارة.. رزيّة الأمة في عقلها!

رحيل محمد عمارة.. رزيّة الأمة في عقلها!
أرشيف

بفقدان العلامة الكبير محمد عمارة، رحمه الله، يهوي كوكبٌ دريّ من عليٍّ، ويأفلُ نجمٌ ساطع من سماء الفكر الإسلامي، بل ينطفئ قنديل طالما توهّج بحرارة، لينير دروب المعرفة والحقيقة لذوي العقول والألباب.

إنّ وفاة المفكر العملاق محمد عمارة، في سياق أحداث المنطقة والتحوّلات الكونيّة الكبرى، هي خسارة فادحة للعقل الإسلامي، ورزيّة مؤلمة للفكر الحضاري الأصيل في تاريخ الأمة المعاصر، ولكن عزاءنا أن الرجل يرحل إلى جوار ربّه بعد أن أفنى حياته في النظر الشرعي والاجتهاد العقلي والمُدارسة العقديّة والفكريّة والفقهيّة لكل قضايا المسلمين عبر المكان والزمان، فترك آثارا نفيسة من الأسفار القيّمة، قاربت 300 عمل بديع، بين التأليف والتحقيق والتقديم، وأكثرها كان من إنتاجه الخاصّ، في رحلة علميّة نادرة الحدوث على مرّ القرون الأخيرة.

لقد عاش الشيخ الجليل محمد عمارة، طيلة سبعين عاما على الأقل، مسكونًا بهاجس التخلف الفكري للمسلمين، ومهمومًا بمعركة دفع الشبهات عن حياض العقيدة وتاريخ الأمة، لذلك نافح عن دينه الحقّ من دون هوادة ولا فتور، فلم يتخلّف عن ساحة من ساحات النزال الفكري، دفاعا عن الإسلام والشريعة الغرّاء، أمام هجمات أعدائها وخصومها والجاهلين من أبنائها، حتى أنه تصدّر محامي “القضية الإسلامية” مطلع الألفية الثالثة.

لا شكّ أنّ العالم الإسلامي قد شهد منذ ثلاثينيات القرن الفائت ميلاد مئات فطاحل “الفكر الديني” وجهابذتهم، لظروفٍ موضوعية ناشئة عن سقوط الخلافة الإسلامية وبروز سؤال النهضة، فكان لكل رائد من هؤلاء حقلٌ معرفي تألق فيه على أقرانه، غير أن ميزة محمد عمارة هي الموسوعية العلمية الفائقة القدرة في الاهتمام والإنتاج، ونحن في هذا المقام ناقلين لا مقرّرين، فمعاذ الله أن نتطاول على تلك القامات الشامخة بالمفاضلة أو المقارنة.

لقد انبرى هذا العالِمُ الفذّ أساسًا للتجديد الديني في كافة الحقول الكلاميّة والأصوليّة والفقهيّة، فسعى إلى تفعيل العقل الإسلامي إلى أقصى مدى ممكن، لكن ظل دومًا داخل الدائرة الأصليّة، أي الانفتاح الاجتهادي دون الانسلاخ الحضاري، مثلما وقع فيه الحداثيون والعلمانيون العرب، عن جهل بالحقائق وقصورها في أدواتها أو بسوء طويّتهم الأخلاقيّة.

لذلك حيثما وليّتَ اهتمامك وجدت آثار محمد عمارة ماثلة أمامك، في المرافعة عن حقيقة الدين ضد الإلحاد، وفي صلاحية الإسلام ضد العلمانية، وفي تثبيت العقيدة ضد التنصير والتشيُّع، وفي توطين التعايش والمواطنة ضد الطائفية، وفي معركة التجديد والاجتهاد والتدقيق ضد الجمود والتقليد والتكلس العقلي وتقديس التراث، ناهيك عن اشتغاله المُضني بتمحيص الأعمال الكاملة لثلّة من أقطاب الفكر والتنوير.

وخلال تلك المسيرة الحافلة بالعطاء، لم يخش الشيخ عمارة، في قول ما يراه صوابًا، لومة لائم جاهل، ولا غضب سلطان جائر، ولا موقف معارض حائر، كما لم يسع إلى نيل رضا أحدٍ من هؤلاء جميعًا، إذ عاش حرّ الضمير ومتحرّر العقل، بعد أن تفرّغ كليّة لأفكاره وكتبه ومكتبته، بعيدا عن إكراهات الوظيفة الحكومية والمناصب الرسميّة، امتثالاً لدعوة والده الذي نذره لطلب العلم.

لعله من المفيد الإشارة إلى أن العلامة محمد عمارة ما بلغ من مراتب الفكر الغزير والإبداع المنير ما بلغه، لولا جملةٍ من الاعتبارات، ذكرها هو بنفسه في عدة مناسبات ومؤلفات، أهمها الزاد الروحي والديني، إذ نشأ الرجل تنشئة إسلامية أصيلة وصلبة، ثمّ تتلمذة على كبار علماء الأزهر، بالموازاة مع الإطلاع المبكّر على عيون الكتب الشرعية والتاريخية في مقتبل الحياة الفكرية، ليأتي بعدها الانغماس في معرفة الآخر بكل المدلولات والمشارب، وكذلك التجارب الفكرية التي خاضها عبر مسار ثريّ، من اليسار الاشتراكي وفق مفاهيم وقيم العدالة الاجتماعية، إلى “العقلانيّة الإسلامية” التي ترتكز على الإيمان والنقل، مرورًا بالقومية العربية بخلفياتها اللغوية الثقافية وليس العرقية العصبية.

لقد شكلت تلك العوامل البنّاءة حصنا منيعا للرجل من الزلل في مواطئ الاجتهاد والنظر، إذ جاءت أعمالُه الضخمة رصينة وعميقة وأصيلة ومتشعِّبة، وفي الآن نفسه جريئة ومجدِّدة ومنفتحة ومتفاعلة مع روح العصر، وما أحوج الأمة اليوم إلى وسطيّة وإنتاج محمد عمارة في زمن الهزيمة الحضارية والغلو والسطحيّة والظاهرية الجديدة والطائفية والعولمة والحداثة الماديّة وسواها من الأفكار المتهافتة.

 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
7
  • بوزيد

    انا لله وانا اليه راجعون رحم االه الشيخ وجزاه اوفى الجزاء مع السهداء والصديقين امين المصيبة في موت العالم العامل الرباني لا اكبر منها الا موت الانبياء ،جعلني الله واياكم من يحييون اثره ويطبقون وصيته ايمانا بنيل الهدف وسرف الغاية ومن عاداه الى مزبلة التاريخ.

  • محمد

    لا يسعنا إلا أن ندعو الله لعالمنا الجليل أن يرحمه برحمته الواسعة وأن يسكنه فسيح جنانه مع النبيين والشهداء والصديقين الذين رفعوا راية الإسلام والمسلمين في صمت يكفل لهم المكانة العالية بين المؤمنين الصادقين.كانت مختلف تدخلاته العلنية تبرز اكتسابه لثقافة عالية وأخلاق سامية وعقل مستنير يكشف عن رؤية واضحة وإدراك لضخامة المسؤولية الملقاة على عاتق من نالوا قسطا من المعارف الدينية لإنقاذ الشعوب الإسلامية من التخلف الراهن والجمود الثقافي والاقتصادي.ما مكنه من نيل احترام سامعيه هو تلك الموضوعية الساطعة من تدخلاته الفكرية البعيدة عن كل تطرف أو انحياز سوى لتشبثه بالبراهين العقلية المعتمدة على نصوص الشرع

  • الدكتور محمد مراح

    وبالطبع فإن المفكر الكبير في مصاف كبار العلماء الموسوعيين في القكر والثقافة الإسلامية: إبداعا، وتجدبدا ، في مسائل دقيقة في الفقه الإسلامي وقضاياه المعاصرة على وجه النحديد. ولذا كان عضوا بهيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف . رحمه الله تعالى وجزاه أفضل ما يجاوى المجاهدبن بالكلمة والعلم .

  • الدكتور محمد مراح

    تعقيب: أرجو أستاذ عبد الحميد أن تأذن لي في التعقيب الآتي الذكر : إن مقالكم يوحي للقارئ المسلم الاعتيادي أن الدكتور عمارة عالم دين أي شيخ بالمعني الذي الذي اعتاده الناس . والحق أن الدكتور عمارة لبس بهذه التصنبف الدقيق ، فهو {درعمي} تعلم وحصل على شهاداته الجامعية جميعا من دار العلوم ، في العلوم الإسلامية وتخصصه الدقيق فلسفة إسلامية . ولذا فإنه ليس فقيها أو أصوليا بالمهتى النخصصي . لكنن المفكر الكبير هضم التراث الفكري الإسلامي وعلومه وفلسفته، ثم انبرى منذ تحوله الكبير للفكر الإسلامي يهندس ويبدع في قضاياه المعاصرة، وقضايا المسلمين، والمفاهيم والمذاهب ، والتحديات المصرية للأمة . وللتقصيل مجاله .

  • الدكتور محمد مراح

    تعزيتي في الدكتور
    إنا لله وإنا إليه راجعون لله ما أعطى ولله ما أخذ
    إنه والحق لمصاب جلل فإن يكن موت عالم يخلف ثلمة في الإسلام لا تُسدَُ الى يوم القيامة.فكيف الحال إن كان الفقيد كتيبة علم وفكر وجهاد قد لا يعلوه جهاد غيره بمعيار الوقت وتحدياته!
    كيف كيف تُبهتُ صروف الحياة و لغوها سطوع كوكب ينير مجرة بأنوار كشَافة لجواهر حقائق الحق تعالى في سماء أبناء نبي الحق ابتداء ثم في العالمين طُرَا! لكن حسبنا وعد الحق تعالى (والله متم نوره ولو كره الكافرون)ّ

  • الدكتور محمد مراح

    جزاكم الله خيرا أستاذ عبد الحميد، على إنارة الشروق بهذا المقال الذي نعيت فيه و ذكرت صنفا من القراء
    في الجزائر ممن عرفو الراحل الكبير المفكر الإسلامي محمد عمارة رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة في الإعلام ، وفي مؤتمرات الفكر الإسلامي في الجزائر . ووأرجو أن بكون أيضا لفت انتباه الجيل الجديد لهذا المستوى من الفكر، والمسلك من الاهتمام. خاصة أن أكثر الشباب المتدين اليوم قد سُلك به في التدين مسلكا ضيقا لا يكاد يجاوز يه إلى آفاق الفكر الإسلامي المعاصر الرحب بما حوى من ثراء قكري ومعرفي وروئ تجديدة تخاطب العصر بنوازله وإكاراهاته، وتحدياتها .

  • نمام

    عندما ياتي مساء الحياة اخر العمر ويحل الموسم تسقط الثمرة اكتمل نضجها ونحمد الله انذاك اننا لم ننتزع بقوة قبل تهاية نضجنا كما يحدث لغيرنا اكتمل نضجنا لذا سقطنا هكذا الحياة ونبقى لحكم التاريخ