الرأي
مراجعات

رسالتي إلى مصر.. حتى لا يعيد التاريخ نفسه

التهامي مجوري
  • 17234
  • 61
أرشيف
الشهيد سيد قطب رحمه الله

فالتاريخ هو 29 أغسطس 1966 اليوم الذي أعدم فيه المفكر الإسلامي سيد قطب…، الذي قد يختلف معه الناس، ولكنهم لا يعرفون له سلاحا غير القلم، فهو الكاتب الأديب المفكر، الذي لم يعرف التيار الإسلامي إلا في العقدين اللذين سبقا وفاته، ولمن لا يعرفه فهو من تلاميذ عباس محمود العقاد؛ بل كان من منظري الضباط الأحرار في ثورة مصر، أيعقل أن يقاتل بالمقصلة من لم يحمل في حياته إلا القلم؟
والتاريخ أن كل العالم تحرك من أجل توقيف هذا الإعدام، ومنهم ثلاثة من قادة العالم الإسلامي وهم: الملك فيصل السعودي، والرئيس عبد السلام عارف العراقي، والرئيس هواري بومدين الجزائري، ومئات من المحامين والمفكرين والكتاب والسياسيين والمثقفين والجمعيات، الذي نزلوا القاهرة وراسلوها مباشرة وبواسطة سفاراتها، استعطافا لحكامها حتى لا ينفذ هذا الإعدام، ولكنه بكل أسف نفذ، ضاربا عرض الحائط كل تلك الترجيات والاستعطافات انتصارا للذات المريضة.
والتاريخ أيضا أن ذلك الإعدام لم يرضِ أحدا في العالم؛ بل إن دبلوماسيا أمريكيا قال يومها لعمر بهاء الدين الأميري رحمه –الدبلوماسي السوري- تعسا لهذا الرجل –يقصد جمال عبد الناص- نحن قلنا له جَمِّد نشاط الإخوان المسلمين والفلسطينيين ولم نقل له أقتل!!
ومن التاريخ أيضا أن هزيمة سنة 1967 كانت بعد أقل من عام واحد من تنفيذ هذا الإعدام المشؤوم…، وهذه الهزيمة وإن لا نسمح لأنفسنا بالقول إنها كانت انتقاما لسيد قطب وصحبه، فرغلي وهواش وغيرهم، فإنها حتما انتقام إلهي وقصاص تاريخي للإنحرافات التي ارتكبتها قيادات هذه الأمة المغبونة –مصر وغيرها- في حق شعوبها، وأسوأ جرائمها في ذلك ما كان ذو طابع سياسي، وأدنى دركات الجريمة السياسية الإعدام لسبب سياسي، والأكثر جرما عندما يكون الإعدام لقيادات فكرية وسياسية وجمعوية كانت ولا تزال تقدم الخدمة للمجتمع.
إن هزيمة 1967، ليست هزيمة لمصر وحدها، وإن كانت هي سبب من الأسباب والمتضرر الأول؛ وإنما هي هزيمة لكل العرب وسقوط حر لتوجههم الفكري الذي تبناه جلهم، فعاث في الأرض فسادا في بغداد وفي دمشق وفي القاهرة..، فكانت نهايته في سنة 1967 كما يقول الدارسون فيما أصبح يعرف بهزيمة أو نكسة 1967 بسقوط الاتجاه القومي بكل مذاهبه وعلى رأسها الاتجاه الشيوعي العربي.
وتمنينا أن يجر هذا التيار معه طغيانه وفساده وإفساده، ولكن مع الأسف ذهبت القومية العربية التي “صدَّعت” العرب ردحا من الزمن، وأبقت لنا أسوأ ما فيها.. وهو الانتقامات السياسية وتصفية الحسابات لأتفه الخلافات والأسباب.
يا حكام مصر نخشى أن يعيد التاريخ نفسه.. في ما تناقلته وسائل الإعلام من تحديد تاريخ إعدام جملة من قيادات جماعة الإخوان المسلمين بـ 8 سبتمبر 2018، إعادة للمأساة وبعثا جديدا لعصبية كنا نظن أننا نسيناها ولا تعود؛ لأن الإعدام في الإطار السياسي، من أبشع ما عرفت الإنسانية في تاريخها؛ لأن السياسيين مهما اختلفوا وتنازعوا فهم مجتهدون في فعلهم، بحثا عن الأفضل والأحسن شعورا بالمسؤولية، فقد كانت الإقالات والانقلابات وربما قامت الحروب وتقاتل الخصوم، ومع ذلك بقيت المسائل في إطارها السياسي المحكوم بموازين القوى… أما أن يَعْدِم القويُّ الضعيف وهما يتنازعان في تحقيق الأفضل، فهذه في لغتنا الجزائرية الشعبية “حقرة”، والحقرة ليست من شيم الرجال الأوفياء لأوطانهم.
فيوم انقلب وزير الدفاع هواري بومدين على الرئيس أحمد بن بلة رحمهما الله، كانت وساطات من أجل إخراج بن بلة، فقيل لبومدين قدِّم الرجل إلى المحاكمة ليقضي مدة العقوبة ويطلق سراحه، فقال لهم “لا أريد أن أفعل، حتى لا يقال إن الجزائر تحاكم أول رئيس لها”. لا شك أن في هذا الكلام شيء من “الخبث” الدبلوماسي؛ لأن الثقة في العدالة كان ينبغي أن تكون أعلى من مجاملة الرجال رؤساء وغيرهم، ولكن مع ذلك يعد ما قاله موقفا سياسيا مشرفا تجاه زميل له في إطار دولة هم من بناتها في تلك المرحلة الحرجة.
يا حكام مصر لا نريد للمأساة أن تتكرر، فلا الرئيس السيسي وفريقه من الملائكة، ولا جماعة الإخوان فريق من الشياطين، وإنما هم سياسيون نزغ الشيطان بينهم، فلا نريد لهذا الشيطان أن يتربع على عرشه وينتقل من “نازع” إلى آمر ناهي ينتقم من الجميع.
فيا حكام مصر أنتم عائلة واحد، أحببتم أم كرهتم، فعائلة السياسي التي هي اليوم على رأس هرم السلطة في صورة ابنها عبد الفتاح السياسي، هي العائلة التي أنجبت عباس السيسي الذي هو قطب من أقطاب جماعة الإخوان المسلمين، ولا يعنيني الآن مدى مستوى القرابة بين الرجلين، بقدر ما يهمني أن مصر واحدة، وعائلة واحدة، لا ينبغي أن تتحاكم إلى آلة الموت في تصفية حساباتها، وانتقام الخصوم من بعضهم البعض، وإنما ينبغي أن تلجأ إلى الرحم الجامعة بين الكل، وإلى التماسك والتكاتف المطلوب في مواجهة المأساة… فأنتم في محنة فعالجوها بما تستحق من التعقل والحكمة، وادفنوا الأحقاد في الرمال الجافة حتى لا تنبت شيئا.
ويا حكام مصر إذا كانت النخب لم تفلح في إقناع جمال عبد الناصر في العفو عن سيد قطب وصحبه، فإننا ندعوكم إلى الاستماع إلى صوت الشعوب التي تئن، وقد أتعبتها مآسي العقود التي قضتها في ظل الدولة الوطنية، ولكم في الجزائر وبغداد ودمشق وليبيا واليمن الآلاف من العبر والدروس التي لا نريد لها أن تتكرر في قاهرة المعز..، فقد رأت من قادتها الوطنيين ما لم تره من الإستدمار الغربي –الأنجليزي والفرنسي- نفسه..، فارحموها بما بقي فيكم من عقل وتدبير وحسن تقدير.
ويا حكام مصر ما هي مصلحتكم؟ وما هي فائدة مصر؟ وماذا يضاف لها في سجلها الذهبي؟ إعدام، محمد البلتاجي، أو صفوت حجازي، أو عصام العريان، أو غيرهم؟ وعندما لا تكون هناك فائدة فالفعل عبث.. أما العفو عنهم الذي ندعوكم إليه أو تعطيل تنفيذ الإعدام في حقهم يعد موقفا سياسيا يُكْسِب مصر الكثير؛ ولو أنكم نظرتم إلى المسألة من وجهها السياسي، وأعطيتم لمستقبل مصر في المنطقة الأولوية، وحولتم العملية إلى مصالحة سياسية لكان أفضل..، فمصر سباقة في إيواء السياسيين والمقاومين والصلحاء من العالم الإسلامي، فقد كانت مصر أم الدنيا بالفعل، ونريد لهذا الدور أن يعود مجددا..
وأذكركم يا حكام مصر بقصة تعرفونها جيدا وهي أن الرئيس محمد أنور السادات رحمه الله، رغم ما عليه من أوزار، فإن له موقف لا ينسى عندما تعامل مع خصوم السلطة بعد مجيئه وكأنَّ شيئا لم يكن، فمن كان في سجن أطلق سراحه ومن كان ينشط ولو خارج القانون غض عنه الطرف ما دام فعله في خدمة مصر؛ بل أبدى تواضعا غير معهود في مقابلته التلفزيونية مع الشيخ عمر التلمساني قائد جماعة الإخوان يومها رحمه الله، قال فيها الشيخ عمر للرئيس السادات.. أشكوك إلى الله .. فرد عليه الرئيس اسحبها يا شيخ عمر!! فكانت تلك العبارة على ما فيها من خبث سياسي، رسالة تطمينية لجميع القوى السياسية وليس للإخوان وحدهم، فكانت بردا وسلاما على الشعب المصري.
إننا نريد لهذا النَّفَس السياسي أن يعود لمصر لتهنأ وتطمئن على مستقبلها الذي تتقاذفه الأمواج يمنة ويسرة..، هذه صفقة للقرن.. وأخرى تبشر بتقسيم مصر إلى دويلتين: قبطية ومسلمة، وخيار ثالث لا يريد لمصر أن تهنأ أو تهدأ بها الأمور؛ لأن استقرارها يهدد الكثير من البرامج التي يراد لها أن تنشط في المنطقة.
ويا علماء مصر لا تستجيبوا لداعي الشيطان، وإنما توجهوا بقلوبكم لداعي الرحمن، فاتقوا الله في أنفسكم وفي شعبكم وفي قياداتكم السياسية والمدنية، وانصحوهم بما تمليه عليكم مكانتكم في السلم الاجتماعي، ولا تجاملوا الناس بما تهوى أنفهم، وإنما جابهوهم بالحقيقة الخادمة للأمة والوطن؛ لأن الخلافات السياسية لا تنتهي، وهي دائما تبحث عن مكسب مساند، أكثر من بحثها عن الحقائق والمواقف التاريخية، ولا ينبغي أن تمكن من ذلك وفاء لهم بالنصح وصدقا مع الشعب، حتى لا تنحرف الأمور عن مسارها الطبيعي، لتأخذ لبوس الحكم القضائي أو الفتوى الشرعية على المقاس السياسي.
إن ما يقع في مصر لا يمكن إخراجه عن الخلاف السياسي، مهما قلنا عن مخالفات هذه الجهة أو تلك. والخلاف السياسي يقتضي من العلماء والمفكرين والمثقفين، أن يكون لهم الموقف الحر البعيد عن الحزازات النفسية والمواقف المؤدلجة، فيصدعون بالحق الذي يمليه عليهم الضمير ومنطق الأشياء.
ومنطق الأشياء يرفض الإعدام في الخلافات السياسية مهما كانت مبرراتها القضائية إلا أن تكون خيانة عظمى حقيقية؛ لأن القضاء كغيره من المؤسسات الإدارية فيها رجال إذا قيل لهم اركعوا يسجدون، فيقضون بهوى الغالب على حساب المغلوب.. وفي كثير من الأحيان من غير طلب منهم.
يا علماء مصر.. إنكم مسؤولون أمام الله إن لم تسجلوا الموقف المناسب الذي يخدم مصر، فلا يخدم الرئيس السيسي وفريقه ولا وجماعة الإخوان المسلمين، وإنما يخدم الشعب المصري الذي يبحث عن الاستقرار منذ ما يقارب العقدين، منذ مسيرة “كفاية” -وربما قبلها- التي شارك فيها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وأذكر من بينهم من لا يوصف إلا بوصفه الواضح وهو العالم الصادق الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله.

مقالات ذات صلة