-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

رسول الداغستاني وعمر الجزائري

رسول الداغستاني وعمر الجزائري

في شتاء 1977 شعرت، وأنا أعبر عاصمة الشيشان، مدينة غروزني الحزينة، بأنفاس التاريخ تنبعث من جبال الشيشان وداغستان وما تحمله من أسرار وأساطير ضاربة في أغوار الماضي، وتذكرت مقاومة شعوب القفقاس للتوسع القيصري الروسي، واسترجعت الصداقة التي جمعت الأمير عبد القادر بالإمام محمد عبد القادر شامل ومراسلتهما، وسعي الأمير لدى نابوليون الثالث لإطلاق سراح الأسير شامل، ولقاءهما في حيّ العمارة بدمشق، وحضورهما تدشين قناة السويس. وتذكرت الزاوية القادرية المنتشرة في تلك الأراضي ومريديها الأشداء.

وعادت بي الذاكرة، أيضا، إلى صدى صوت رسول حمزاتوف المدوّي شعرا ودفء. ورسول حمزاتوف، هذا، ظاهرة فريدة وغريبة في آن واحد في الشعر العالمي، جمع بين البعد الملحمي، كما هو عند هوميروس، والطموح العارم اليائس الذي يزخر به شعر المتنبي، وتأملية هاربة من الحياة، مثلما هي عند الأديب الفيلسوف الإغريقي نيكوس كازانتساكيس. في شعره، الذي ترجم إلى جميع اللغات الحيّة في العالم، تمجيد للحب وإخفاقاته، وقيّم الصداقة والخيانة، والفروسية والبطولة والشهامة. من أجمل ما كتب حمزاتوف ديوان “جزيرة النساء” وسيرة ذاتية بعنوان “داغستان بلدي” التي تعتبر، في رأيي، من أروع السيّر الذاتية في العالم إلى جانب “أعترف إني عشت” لبابلو نيرودا و”تقرير إلى غريقو” لنيكوس كازانتساكيس.

هذا الشاعر الآفاري ولد في بلدة تسادا في إقليم داغستان السوفييتية سابقاً. ويحفظ الآفاريون شعره عن ظهر قلب، ويردّدونه في أفراحهم وأتراحهم. والآفاريون أغلبية عرقية في داغستان التي تقطنها أقلّيات متعددة. يكتب حمزاتوف الشعر بالآفارية، وهي لغة تنتمي إلى المجموعة اللغوية الإيبرية القفقاسية. ووالده أيضا شاعر شعبي، اسمه حمزة تسادا، وتعني تسادا اللهب، أي أن رسول ولد وترعرع في أسرة سكن بيتها الشعر والكرم والتصوف، وبدأ الكتابة في سن مبكرة. وقد أنهى المرحلة الدراسية المتوسطة في دار المعلمين في قريته، وعمل معلماً في مدرسة ابتدائية، ثم ممثلاً في المسرح، ومحرراً في الصحافة. انتسب في عام 1945 إلى معهد غوركي العريق للآداب العالمية بموسكو، فاطلع على أعمال الأدباء الكلاسيكيين الروس، وأقام صداقات مع عدد من الأدباء مثل يفتوشينكو وتفاردوفسكي وصموئيل مارشاك، وبعد التخرج تفرغ كلياً لقول الشعر.

وشاءت الأقدار أن يلتقي الشاعران رسول حمزاتوف وأزراج عمر في داغستان في التسعينيات، وكأني بهما يجددان بعد قرن ونصف لقاء الأمير عبد القادر والإمام شامل. استضاف الشاعر رسول حمزاتوف بمنزله أزراج عمر، ونظّم له زيارة ودية وأدبية إلى منطقته (أفاريا)، حيث دفن والد حمزاتوف الشاعر والإمام المسلم وأحد أقطاب الفكر الإسلامي في آسيا الوسطى وعموم الشرق الإسلامي.

في “أفاريا” استقبل السكان المسلمون بالمئات بحفاوة أزراج عمر حبَا في الجزائر وتاريخها وانتمائها الحضاري، وحدثوه بشغف عن ثقافتهم التي تجمعها بالثقافة الجزائرية روابط اللغة والحضارة الإسلامية. يتذكر أزراج عمر متحف والد رسول المتوفى بمنطقة “أفاريا”، حيث يعيش الشعب “الأفاري المسلم”، وانبهر بالكثير من كتابات والده العالم والإمام “حمزة” باللغة العربية كتبها حول المسائل الفقهية الإسلامية والقضايا الفلسفية ذات الصلة بالفكر الفلسفي الإسلامي، منها هوامش وتعليقات على آراء فيلسوف قرطبة إبن رشد، كما شاهد على الجدران الخارجية لذلك المتحف الجميل كتابات باللغة العربية، وهي عبارة عن مجموعة من الأشعار والحكم والأذكار.

في إحدى الجلسات الحميمية والطويلة بمنزل حمزاتوف، بحضور زوجته “فاطمة”، تشعب الحديث بين الشاعرين حول الأدب وحول الجزائر، التي لا يعرف عنها حمزاتوف سوى لقاء الأمير بالإمام شامل وثورتها التحريرية. في هذا الحديث قال حمزاتوف بأنه “دخل إلى الثقافة السوفييتية من باب الثقافة العربية الإسلامية في إشارة إلى موروث والده إمام المسلمين بداغستان ومنطقته “الأفارية” بالقوقاز”.

ودار الحديث بين الشاعرين حول قضايا الشعر وجمالياته وجدواه، وحول مفاهيم الالتزام والحرية والمسؤولية، وحول القضية الأبدية المتمثلة في العلاقة بين الشكل والمضمون. وكان جواب رسول حمزاتوف على تساؤلات أزراج عمر:

إن الناس الجديين لم يناضلوا من أجل مضمون وشكل فقط. إن عشاق الثرثرة هم الذين يمارسون هذا الفعل. وإذا كان هنالك من بقيّ يفكر في هذه المشكلة ببلادكم الآن، فإننا نقول له ولهم: إن ثورة 1954 الجزائرية قد حلّت مثل هذه المشكلات. أما بشأن الشكل والمضمون في الشعر، فأنا لا أحب أن يلبس الشعر غطاء، ولا أحب أن يكون عاريا بلا ملابس، أي أن يعمل الشعر عن طريق العري. إن الشكل متعلّق بالأمة واللغة. ففي الجزائر أدباء يكتبون باللغة الفرنسية وأدباء يكتبون باللغة العربية، وأنَ الأصل في القضية يكمن في التعبير عن عمق الحياة الشعبية الأصيلة وقضايا العصر الملّحة، ولعل الأدب في الجزائر مرّشح لأن يعبّر عن الإنسان المعاصر لأن الغرب والشرق التقيا في الجزائر”.

التقى الشرق والغرب في الجزائر، والتقى رسول وعمر في داغستان في جلسة مفعمة بأنفاس التاريخ بملاحمه، وبكل ما يحمله من تطلّعات وانكسارات.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • chekfa

    Mr Boubakir one of the best writer i know in the arabic world .Wonder if he has puplished his articles in his web site or a book ,never missed his articals for long time .please let me know where we can find the of your work s ,just check amazon .com you do not existe .I can read his work all time he has his owen style .I feel when i read for him he is Ecyclopedic writer .wish you more progress and good health.
    your best reader in the world .
    chekfa ny usa ]

  • sofiane

    c est tres beau....magnifique...tu m a ramener t6res loin avec ce reve....je croix que je vais visiter ce pays ...

  • Baki

    شكرا لك سيدي
    اننا متعطشين لمثل هذه المقالات

  • bakou

    ولعل الأدب في الجزائر مرّشح لأن يعبّر عن الإنسان المعاصر لأن الغرب والشرق التقيا في المغرب الكبير او شمال افريقية!!!!
    علي الهامش:افتوشنكو Dans les baies sauvages de la syberie!!
    صاحب المقالة يعرفه