الرأي
الجزء الأول

رشيد أيلال والتجني على صحيح البخاري

محمد بوالروايح
  • 13057
  • 31

ابتليت الأمة الإسلامية في عصر الحداثة وعصر ما بعد الحداثة بكتاب يصفون أنفسهم أو يصفهم أتباعهم بالعقلانيين الذين يحتكمون إلى العقل في كل شاردة وواردة، ويوليه أكثرهم قداسة تجعله فوق النقل، بل أكثر من هذا ناقضا للنقل، فانتقلنا بسبب ذلك من إشكالية التناقض بين العقل والنقل إلى اعتماد العقل واغتيال النقل، والمؤسف أن من هذه الفئة باحثين من بني جلدتنا ويتكلمون بلساننا، ويدعون أنهم يفعلون هذا من أجل عقلنة النصّ الإسلامي وتنزيهه من المرويات التي تجافي العقل وتنافي المنطق.

ظهرت في زماننا “جماعة الرشديين” همُّها التشكيك في التراث الإسلامي تحت ذريعة التنقيب التاريخي والتمحيص العلمي، فقرأنا وسمعنا عن سلمان رشدي ومفترياته في كتاب: “آيات شيطانية” ونقرأ ونسمع عن نابغة قناة “الحياة” رشيد المغربي، وها هو ثالث الرشديين المعاصرين رشيد أيلال يطلع علينا بكتاب سماه: “صحيح البخاري.. نهاية أسطورة”، والذي احتفى به العلمانيون والحداثيون احتفاءً غير مسبوق كونه يمثل بالنسبة لهم قيمة مضافة في نضالهم الفكري المناهض لكل ما هو ديني وإسلامي على وجه الخصوص.

أيلال كما قرأنا في كتابه يتهم التراث الديني الحديثي في المقام الأول بأنه تراثٌ مغشوش، وأن غربلته أمرٌ لا غنى عنه، فكيف يتفق هذا مع اعتماده على هذا التراث المغشوش -حسب زعمه- لتأكيد النهي النبوي عن تدوين الأحاديث؟

والغريب أن رشيد أيلال يُظهر نفسه في مقدمة الكتاب على أنه إنما يفعل هذا دفاعا عن السنة التي تعرضت -حسب زعمه- لكثير من التسفيه والتشويه، وهو ما حفزه لكتابة كتابه سالف الذكر الذي ضمنه كما يقول حشدا من الأدلة القاطعة والحجج الدامغة التي تنهي وبشكل حاسم “أسطورة كانت ولا تزال تحظى بهالة من التقديس لدى عموم المسلمين”، ويقصد بذلك كتاب “صحيح البخاري”.

ولأن من مقتضيات النقد العلمي معرفة المصدر الذي يُرام نقده فقد اضطررتُ لقراءة هذا الكتاب من جلدته إلى جلدته مع تجاوز بعض الفقرات لعدم أهمِّيتها، وها أنا أقدِّم للقراء خلاصة ما انتهيت إليه بكل موضوعية.

 

من هو رشيد أيلال؟

من الطبيعي أن من ينتقد شيئا ينبغي أن يكون عالما بأصوله، عارفا بمسائله، محيطا قدر الإمكان بمضامينه، مدركا لما كتبه من سبقوه، فإذا لم تتحقق في الناقد هذه الشروط أو أكثرها فإن انتقاده لغيره لا يُعتدُّ به. ويبدو أن رشيد أيلال من الصنف الذي ينطبق عليه هذا الوصف، فقد أقحم نفسه في علم الرواية وهو فيها عيّ جاهل لا يعرف قليلها ولا كثيرها، ولا يفقه شيئا من أصولها وفروعها، فكل ما نقله الإعلام عن أيلال أنه كاتبٌ باحث في نقد التراث الديني وعلم مقارنة الأديان، وصحفي بجريدة “رسالة الأمة” المغربية، وأن له عدة مقالات في هذا المجال منشورة في عديد المجلات والمواقع الإلكترونية، كما أن له سلسلة محاضرات بعنوان “انتحار الفقيه” في قناته على اليوتيوب، هذا ما يسوِّق الإعلام، فإذا جئنا نختبر حقيقته وحجمه المعرفي لم نجده شيئا مذكورا؛ فهو من الذين ينتسبون إلى الفكر الديني من غير استحقاق معرفي، ومن الذين يحسبون أنفسهم من الضالعين في مقارنة الأديان من غير استحقاق معرفي أيضا، شأنه في ذلك شأن رشيد المغربي الذي يدّعي علما بكل شيء وهو لا يعلم شيئا.

يدّعي أيلال بأن ما أشيع بأنه “صحيح البخاري” ليس إلا نسخة للمستشرق “منجانا”، وهو بالتأكيد محض افتراء، ولو كان هذا صحيحا لسارع “منجانا” نفسه إلى تأكيده وتبنِّيه لأنه يمثل بالنسبة له إنجازا غير مسبوق في مجال نقد التراث الديني الإسلامي.

ومن الضروري هنا أن أشيد بكتاب الباحث الفلسطيني “يوسف سمرين” بعنوان: “بيع الوهم: تهافت طرح رشيد أيلال على صحيح البخاري”، فقد عرَّى صفحته، وكشف كما هائلا من السرقات العلمية في كتابه، وكانت بداية ردود يوسف سمرين على ما قاله عبد النبي الشراط، مدير دار النشر “الوطن” التي طبعت الكتاب، والذي لم يُخف إعجابه برشيد أيلال و”جرأته العلمية” و”كفاءته التاريخية” و”نظرته الثاقبة والناقدة لمصادر التراث الحديثي” وفي مقدمتها “صحيح البخاري” حيث كتب بأن ما قام به رشيد أيلال “جهدٌ كبير” يضاف إلى جهود باحثين آخرين من شاكلة ما كتبه باحثان بعنوان: “آذان الأنعام: دراسة قرآنية علمية لنظرية داروين في الخلق والتطوّر” حيث يقولان فيه عن داروين: “لا يشك أحدٌ في أنه مات موحِّدا على الفطرة السليمة”؟!، ومن شاكلة ذلك أيضا كتاب: “أمي كاملة عقل ودين” لعماد حسن، وكتاب: “سراق الله، الإسلام السياسي في المغرب: تأملات في النشأة والخطاب والأداء” لإدريس هاني. 

وذكر يوسف سمرين أن أهم ما يميز كتاب رشيد أيلال أنه فهم بالمقلوب، ومجرد معارضة واستنساخ، وأن صاحبه باحثٌ غير باحث، وأنه خلط أصول الفقه بمباحث الحديث، وأنه أخطر من ذلك تحرّى أسلوب الكذب، وأضاف يوسف سمرين بأن الشيخ حسن الكتاني كتب في تدوينة له على الفايسبوك بأن عبد النبي الشراط مدير دار النسر “الوطن” التي طبعت الكتاب، كان محسوبا على الحركة الإسلامية، ثم ترفَّض أي تبنَّى عقائد الرافضة وأصبح من غلاة الشيعة، ومن ثم فإنه لا داعي للاستغراب من اتحاد رافضي علماني.

ومما يدل –حسب يوسف سمرين- على جهل رشيد أيلال بعلم الرواية إقحامه لنصوص دخيلة على النص الأصلي للأحاديث المذكورة في صحيح البخاري، والأخطاء الظاهرة والمتكررة في التخريج، ويعلق على هذا بقوله: “هذا حال باحث يريد أن ينقد البخاري”! وفي كتاب سمرين أمثلة كثيرة لهذه الأخطاء لا يتسع المقام لذكرها ولكنني أحيل القراء إليها في كتابه “بيع الوهم”.

وأزيد على ما ذكره يوسف سمرين بأن أيلال يدعي نقد البخاري، ولكنه لا يتردد، في سياق الاستدلال على ما سماه “نهي الرسول عن تدوين كلامه” من الاستشهاد ببعض الأحاديث التي رواها الدرامي شيخ البخاري، فالطعن في البخاري يتنافى مع الاعتماد على روايات أخذها عن شيخه “الدرامي”، إذ أنَّ التلميذ ليس في أكثر حالاته إلا صورة لشيخه، فما هو تفسير هذا التناقض؟ ويضاف إلى ذلك أن أيلال كما قرأنا في كتابه يتهم التراث الديني الحديثي في المقام الأول بأنه تراثٌ مغشوش، وأن غربلته أمرٌ لا غنى عنه، فكيف يتفق هذا مع اعتماده على هذا التراث المغشوش -حسب زعمه- لتأكيد النهي النبوي عن تدوين الأحاديث؟ وماذا يعرف أيلال عن تدوين الأحاديث إلا ما قرأه في كتب وكتابات المستشرقين والحداثيين؟ ويدّعي أيلال بأن ما أشيع بأنه “صحيح البخاري” ليس إلا نسخة للمستشرق “منجانا”، ولم نقرأ في كتابات هذا المستشرق شيئا عن ذلك، وهو بالتأكيد محض افتراء، ولو كان هذا صحيحا لسارع “منجانا” نفسه إلى تأكيده وتبنِّيه لأنه يمثل بالنسبة له إنجازا غير مسبوق في مجال نقد التراث الديني الإسلامي.

 

منهجٌ عجيب 

لم يجد رشيد أيلال في محاولته تأكيد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تدوين كلامه بُدّا من الرجوع إلى تفسير “فتح الباري” للحافظ ابن حجر العسقلاني، ولكنه يعود في آخر الكتاب ليقول عنه: “يعتبر الحافظ ابن حجر العسقلاني من أشد المنافحين والمدافعين عن كتاب الجامع الصحيح عبر التاريخ، وشرحه “فتح الباري” من أشهر الشروح، وأكثرها اعتمادا لدى الشيوخ المعاصرين، وابن حجر تحمَّل عبء تبرير مجموعة من المتناقضات التي تعتمل في هذا الكتاب، كما حاول جاهدا أن يتصدى لحجم الانتقادات التي تم توجيهها لكتاب صحيح البخاري، لكن رغم ذلك كله، وجد نفسه مرات عدة في ورطة، جعلته يحار في الدفاع عن هذا الكتاب، واعترف مرات عدة بأنه كان يتكلف أحيانا في الرد على المنتقدين.

 

أيلال رافضٌ للتراث الحديثي والديني 

يظهر من كتاب “صحيح البخاري، نهاية أسطورة” أن أيلال من الصنف من الباحثين الرافضين للتراث الحديثي والديني بصفة عامة بدعوى أن هذا التراث “تراثٌ يشوبه القصور، ولا يقوى على الصمود أمام النقد العلمي”، وقد وقفتُ في مواضع كثيرة من كتابه على كلام متناقض وموقف مضطرب من الفكر الديني، ومن ثم ننتهي إلى نتيجة وهي أن نقد صحيح البخاري ليس إلا مطيَّة ركبها أيلال من أجل أن يمهِّد بها الطريق مستقبلا لكتابات أكثر جرأة على التراث الإسلامي، وما يدل على ذلك ما جاء في مقدمة الكتاب: “.. وما ساعد على هذه الحركة الفكرية بخصوص انتقاد التراث الديني، ما يعيشه العالمُ اليوم من ثورة علمية غير مسبوقة أيضا، جعلت العقل البشري يتبوأ مكانة السيادة والريادة في جميع المجالات، فاتحا مستقبل البشرية جمعاء على آفاق واسعة من التقدم المذهل في شتى مناحي الحياة”.

 

كثرة النسخ لا تطعن في المنسوخ 

من القواعد المتفق عليها بين جمهور المحققين أن كثرة النسخ لا تطعن في المنسوخ، ومن القواعد المتفق عليها بين أهل الحديث أن كثرة الرواة والروايات لا تطعن في صحة الحديث بل تقوِّيه، أما رشيد أيلال فيخالف هذا ويدَّعي بأن اختلاف نسخ صحيح البخاري دليل على أن هذا الكتاب لم تثبت نسبته إلى البخاري، وأنه قد يكون من إنشاء المستشرق “منجانا” أو كاتب آخر مجهول. ومن الغريب أن أيلال يرى من جهة أن اختلاف نسخ صحيح البخاري من الضربات القاصمة الموجهة لصحيح البخاري، لكنه من جهة أخرى يستشهد بما أورده الحافظ ابن حجر العسقلاني في “فتح الباري” ما نعدّه ويعدّه كل باحث متبصِّر حجة عليه لا له، هذا بالإضافة إلى أن اختلاف الروايات في صحيح البخاري يُعزى إلى التقديم والتأخير ولا يرقى ليمثل قصورا معيبا يكون مساغا لطعن مبالغ فيه. 

 

قصة تأليف كتاب الصحيح

الذي اطلع على قصة تأليف كتاب صحيح البخاري يعلم بأن هذا الكتاب من تأليف البخاري قولا واحدا، ولا صحة للأقوال التي تذهب إلى نسبته إليه على وجه الترجيح كما ظن بعضهم، أو نفي نسبته إليه كما يدعي رشيد أيلال، فالصحيح هو خلاصة بحث مضنٍ، فلم يتعجل البخاري في إخراجه، وأتبعه بكثير من المراجعة والتنقيح والاستقصاء حتى خرج في صورته النهائية، واتبع منهجا صارما، ووضع شروطاً لقبول رواية راوي الحديث، وهي أن يكون معاصرا لمن يروي عنه، وأن يكون قد سمع الحديث منه، إلى جانب الثقة والعدالة والضبط والإتقان والعلم والورع، ووصل في النهاية إلى اختيار الأحاديث الصحيحة خمسة وسبعين من عددٍ هائل من الأحاديث التي وقف عليها، فكيف يُقبَل من أيلال بعد ذلك الادعاء بأنه لا علاقة للبخاري بالجامع الصحيح ولا علاقة للجامع الصحيح بالبخاري؟ أو يتلطف في ذلك شيئا قليلا بالقول بأن البخاري لم يكمل كتابة الصحيح، وأكمله بعض تلاميذه فحذفوا منه وأضافوا إليه؟

 

من الهراء ادِّعاء فارسية البخاري

لا أدري على أي مصدر اعتمد رشيد أيلال في ادعاء فارسية الإمام البخاري مع أن كل التراجم تشير إلى أن البخاري ليس فارسي الأصل، فهو من بخارى على نهر جيحون، وأنه تعلَّم اللغة العربية وتضلع فيها، وأنه اشترط في المحدِّث أن يكون عالما بالعربية، مُتقنا لفنونها وعلومها، فهل يُعقل أن يشترط البخاري شروطا في غيره وهي منتفية فيه؟.

.. يُتبع 

مقالات ذات صلة