-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

زهرةُ بلدة تْكوت

زهرةُ بلدة تْكوت

بسم الله الرحمن الرحيم

بالأمس البعيد نسبيا، كانت التحذيرات تتوارد وتترى إلى أذن كل من يهم بالسفر قاصدا ناحية تكوت بالأوراس الجنوبي ولو في زيارة خاطفة. وتصل إلى حد تخويفه من المصير الهالك، وتفتح عينيه على ما يمكن أن يقابله من مكاره، وتوصيه، خاصة، بالتزود بما يكفيه ويسد رمقه من المؤونة، وتلقي في سمعه بقولة تخويفية محفوظة ومتكررة على الألسن؛ فريف تكوت ولاية باتنة، كان يومذاك، غارقا في عزلته التي لا ترحم حتى الكوعين، والحياة فيه صعبة، والأخطار تحدق بقاطنيه القليلين من كل جانب نتيجة البؤس والفقر وقلة ذات اليد.

أما اليوم، فقد تغير وجه الحياة في تلك الربوع، وخرجت من شرنقة عزلتها الخانقة، وارتقى الريف إلى تجمع سكاني أنجب بلدة صاخبة بالحيوية والحركة الدؤوبة. وزادها طيبة قاطنيها انفتاحا لقبول كل وافد عليها أو زائر لها، واستقباله بالترحاب وعبارات الود والمحبة.

عندما تتاح لك زيارة بلدة تكوت وتنزل ضيفا في رحابها، لن تواجهك أي مشقة للوصول إلى مسكن المجاهدة الشريفة خالتي “الزهراء”. ولو سألت حتى الصبيان لوجدت من بينهم الدليل النابه والمتطوّع الذي يرسم أمامك خط الوصول إلى باب منزلها بكل يسر. فالسيدة أمست سمة وعنوانا ومعْلما من معالم البلدة، ورمزا من رموزها التي صنعت سمعتها ورفعتها، وأضحى مسكنها مزارا مقصودا طار صيته، حتى غدا كالعلامة المميزة أو كالمزار الأثري الخالد.

لم يطل وقوفي رفقة الراحل المربي والشاعر السبتي أحمان (1945 24 جويلية 2023) أمام مسكن خالتي “الزهراء”، وما أن دققنا بابه، حتى وجدنا من ينتصب أمامنا بوجه طلق مبتسم مجيبا ومستقبلا ومرحِّبا بكلمات حسنة وعبارات عذبة. ولقد ظهر أمامنا، في الأول، زوجها عمي محمد ضحوة الذي يتحرك بصعوبة ويعارك حزمة أمراضه التي أتعبته، ثم لحق به ابنه عبد السلام الوسيم ذو الوجه اللّماح والقسمات المنيرة المشعة.

ولجنا بيت الضيوف، وما إن جلسنا حتى دخلت علينا خالتي “الزهراء” بكامل هيبتها ووقارها وشموخها وإبائها. وجهٌ مشرق برّاق، وبشرة شفيفة لامعة تنافس في بياضها الصوف المنظف والمندّف، وعينان زرقاوان فيهما بريق لا ينطفئ، وآثار جمال آخاذ عجزت السنون بكل صعوباتها ومحنها وأرزائها عن محوه أو مسحه. ومما زاد في أناقتها المظهرية مسحة الانسجام والتناسق في اللون بين جبّتها الطويلة الواسعة التي تجلببت بها وخمارها ذي الحافة المتضرسة الذي لف شعر رأسها وأحاط بخصلاته إحاطة كاملة. فلقد تيسر على خالتي “الزهراء”، بفضل تحضرها وحاستها الانتقائية الموروثة أن تجمع في مهارة ووئام بين سلامة ذوقها الذي اكتسبته في بيئتها الأوروبية الأولى بما ينبّئ بطيب عنصرها واللباس المحتشم الذي يفرضه الإسلام بعد أن رضيت به دينا مفضلا ومنهج عيش وطريق حياة لاحقا.

حوّلت خالتي “الزهراء” الغرفة التي استقبلتنا فيها إلى مُتحف ثوري مؤثث ومرتب ترتيبا مبهرا يصون إرثها وتراثها الماديين، وأحاطته بحسن الترتيب والرعاية؛ ففي خزانته الزجاجية، احتفظت بالأوسمة والنياشين والشعارات وشهادات التقدير والاعتراف التي نالتها من جهات مختلفة رسمية وأهلية وشخصية كعرابين اعتراف صريحة وعهود وفاء وامتنان إقرارا بما سخت به من جود أفضالها وعطاءاتها. وعلى الجدران، علّقت صوّرا تُظهرها في جبال الأوراس مجاهدةً مرتدية اللباس العسكري الميداني وواضعة على رأسها قبعة واقية. وتبدو في إحدى هذه الصوّر ممتطية عربة عسكرية غنمها المجاهدون البسلاء وانتزعوها من أيدي العساكر الفرنسيين المفجوعين أو أقعدوها عن الحركة إثر أحد الكمائن أو المعارك.

بمجرد دخولها علينا، أحسست أن منابع الضوء المدهشة والساحرة قد هجمت على المكان، وأن نورا إضافيا قد غزا أركان الغرفة. وبعد تبادل التحيات، جلست بجانبي، وفي مقابلنا جلس زوجها ورفيقي عمي السبتي أحمان، رحمه الله، يتبادلان الكلام. وتعمدت أن تكون أسئلتي قصيرة حتى أفسح لها مجالا أرحب للحديث. وكانت تتكلم معي بلهجة عربية دارجة فيها نبرات عُجمة لم تلغِ طلاقتها. وفي لحظة، سألتها عن مدى تمكّنها من الحديث باللهجة المحلية الشاوية، فأقرّت لي بأنها تفهمها، ولكن لا تتكلمها. ثم أظهرت لي أن شروش أصولها مدسوسة في الأراضي البلجيكية. وحينئذ، سألتها مستغربا: وكيف يدعونك ب”الزهرة الألمانية”؟ فأجابتني بعد ابتسامة: إن إخواني الجزائريين سرى بينهم اعتقادٌ باطل ومضمونه أن كل من رُزق عيونا زرقا فهو ألماني! فضحكت. ثم سردت علي، بإيجاز، محطات عن مسيرة حياتها في طورها الجهادي، وختمتها بقولها: إن أعز مكسب وأغلى غنيمة أحرزتها في رحلة حياتي وما فيها من أخطار ومجازفات هو دين الله الإسلام.

على الجدران، علّقت خالتي “الزهراء” صوّرا تُظهرها في جبال الأوراس مجاهدةً مرتدية اللباس العسكري الميداني وواضعة على رأسها قبعة واقية. وتبدو في إحدى هذه الصوّر ممتطية عربة عسكرية غنمها المجاهدون البسلاء وانتزعوها من أيدي العساكر الفرنسيين المفجوعين أو أقعدوها عن الحركة إثر أحد الكمائن أو المعارك.

عاشت خالتي “الزهراء” أحد عشر شهرا مرابطة في ساحات الجهاد رفقة زوجها المجاهد عمي محمد الذي التحقت به بعد أن بلغها خبر فراره من معتقل “قصر الطير” الجهنمي أو “قصر الأبطال” كما سمي فيما بعد، وعملتْ ممرضة تضمد جراح المجاهدين المصابين، وتواسيهم، وصبرت على عناء ومحن الحياة الجبلية القاسية التي لم تألفها، وصمدت أمام قلة الطعام وندرته أحيانا والذي لم يكن يتجاوز في أزمنة الضيق عدة حبات من التمر وأخرى من البلوط الذي لم تتعوّد على أكله.  وكان زوجها وبقية إخوانه المجاهدين يؤثرونها على أنفسهم، ويجعلون لها قسطا من التمر الذي يعطى لهم، ويضعونها بين أيديها تبجيلا وإيثارا رغم خصاصتهم.

بعد افتكاك الاستقلال، استطاب الزوجان المجاهدان الإقامة ببلدة تكوت رغم أن عمي محمد ينحدر من عين ناقة الواقعة في ولاية بسكرة. وانطلقت خالتي “الزهراء” تقدم خدمات عظيمة في مجال التمريض لسكانها جميعا في إحدى المصحات. واستمرت تخدمهم لمدة زادت عن خمس وثلاثين سنة بلا توقف. وكانت تستقبل النساء الحوامل في منزلها، وتساعدهن عن الوضع في كل وقت ليلا أو نهارا بصبر وطول أناة، وتعرض مساعداتها على الفقيرات منهن في كرم وسخاء.

كان زمن زيارتنا ضيِّقا، ورغم ذلك فإن خالتي “الزهراء” أبت إلا أن تسقينا فناجين من القهوة، ورفضت أن نغادر مسكنها قبل ارتشافها. ولعلها تعلّمت ثم عملت بالعادة العربية الراسخة التي ترى أنه لا يجوز للمضيّف أن يترك ضيفه يغادر مرْبعه الذي يقيم فيه قبل أن يكرم وفادته بما حضر من المشروبات أو الطعام.

بعد يومين أو ثلاثة من هذه الزيارة، جاءني مرافقي في هذه الزيارة الفقيد العزيز أبو سهيل الشاعر السبتي أحمان، رحمه الله، بقصيدة لامية عصماء تحدث فيها عن الزوجين المجاهدين عمي محمد ضحوة وقرينته خالتي “الزهراء”. وإكراما لروح شاعرنا الراحل، أنشر هذه القصيدة كاملة.

من بين الثنايا لاحت “الزّهراء”

الحاج “ضحوة” كان لها دليل

على طريق الكفاح كانا تعاهدا

من أوربا بدأ التخطيط والتحليل

شعلة الثورة فيهما بدا لهيبها

خوض الكفاح كان هو البديل

قرّرا وانطلقا تحدوهما همّة

فداء الجزائر بالأرواح هو السبيل

جبال الأوراس مستقر لهما

كفاح مرير مساره مظن طويل

مستعمِر عنيد مصرّ على البقاء

وبالمقابل ثوار ترويضهم مستحيل

الحاج “ضحوة” من قصر الطير هارب

له مع “الزهراء” موعد ورحيل

رحيل في متاهات الكفاح صعابها

شتى، تخالطها آلام، هموم وتهويل

حبات تمر وبلّوط تقاسماها

وناما يرجوان حلول اليوم الجميل

حرّ في الصيف وقرّ في الشتاء هما

موجعان للنفس، ما لهما أبدا مثيل

لكن وعد الله حق صارخ

أتى باليوم الأغر فيه تكريم وتبجيل

هذه “الزهراء” بعد الحرب كانت لها

بصمات في الصحة، صائلة وتجول

تتحدى الصعاب والعادات لأنها

آمنت أن جهاد الأمس باليوم موصول

يا “زهرة الأوراس” سيري وافخري

مسارك الشريف بين الحرائر مأمول

لك في الجزائر أعلى مكانة

جهاداك فوق الرأس تاج وإكليل

والحاج “محمد” في القلب، مكانته

عالية، له منا حضن وتقبيل

و”عبد السلام” أكرم به نجلا صالحا

ترحيبه بنا ما فيه تريث ولا تأجيل

سلام على كل من لبّى النداء

له في كل لقاء تكبير وتهليل

جياد نوفمبر وثّابة جامحة

لها في الوغى حمحمة وصهيل

لم يخطئ من سمّى هذه المجاهدة الفذة باسم: “الزهراء”، فقد أصاب مرتين اثنتين، فهي ذات وجه مزهر وأبيض ومزهوّ ومضيء، هذا في المقام الأول. وأما في المقام الثاني، فإنها تمثل زهرة بلدة تكوت اليانعة بلا منافس. وإن كان عمر الأزهار قصيرا، ولا تظهر إلا في فصل الربيع، فإن المجاهدة خالتي “الزهراء” هي زهرة كل الفصول في أرض الجزائر برمتها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!