سأحدثهم عن الجزائر الجميلة فقط
خلال الإجازة التي قضيت جلها في الجزائر، حاولت كالمعتاد إخفاء المظاهر التعيسة عن أبنائي، واجتهدت في إبراز الجزائر الجميلة، وتجنب الحديث أمامهم عن كل النقائص والسلبيات والإساءات التي يتعرض لها الوطن، وكنت كل مرة أحاول تبرير ما يكتشفونه من نقائص وسلبيات حتى لا يفقدوا ثقتهم واعتزازهم بوطنهم، ويكبروا على القناعة والرضا، وعلى الطموح للأفضل في الوقت نفسه مهما كانت الظروف، لأنها ليست قدرًا محتومًا!
كالمعتاد سأخفي عن أبنائي مضمون هذا المقال، وأتمنى ألا يقرأه بقية أطفال الجزائر حتى لا يكتشفوا بأننا نكذب ونتحايل عليهم مجددًا من أجل أن تبقى الجزائر في عيونهم وطنًا جميلاً، ونخفي عنهم ممارساتنا وتقصيرنا تجاه هذا الوطن الذي تتراجع فيه الأخلاق والقيم، ويتراجع فيه التزام وانضباط كثير منا، ونكاد نفقد احترامنا لأنفسنا وللآخرين بسبب التحولات التي يشهدها المجتمع، وتقصير الأسرة والمدرسة والمسجد ومختلف مؤسسات الدولة التي لم تعد تقوم بواجبها كما كانت زمان لما كانت الجزائر جزائر، وكان رب الأسرة يقوم بواجباته على قلة إمكاناته، وكانت المدرسة تربي قبل أن تعلم، وكان الشارع والمسجد والجمعيات والمؤسسات يصنعون الرجال والنساء، ويصنعون الحلم والأمل والطمأنينة!
جزائر هذه الصائفة كانت أسوأ من جزائر الصيف الماضي ليس بسبب الرطوبة العالية، والفيضانات التي قتلت أبناءنا في قسنطينة، وليس بسبب نقص المرافق السياحية وتردي الخدمات، ولا حتى بسبب ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة الدينار، والزيادة المذهلة في حوادث المرور التي قتلت الآلاف، ولكنها كانت أسوأ بسبب ازدياد مشاعر التذمر من الأوضاع والتخوف من المستقبل مقابل ازدياد وعي الجزائريين واقتناعهم بأن المجتمع يعاني أيضًا تراجعًا في القيم والأخلاق، مما انعكس على السلوكيات والمعنويات، وأعطى الانطباع بأن مصيرنا المحتوم هو الفشل والتخلف!
أحيانًا ينتابني شعور بأن قطار الحضارة والثقافة والتربية قد فاتنا، ومصيرنا الفشل والتراجع والتخلف، ولم يبقَ لنا سوى محاولة حفظ ماء الوجه أمام الأجيال الصاعدة، وأحيانًا عندما ألمس عند أبنائنا تلك البراءة والصفاء والعفوية في حب الوطن يعود إليّ الأمل في غد أفضل سيصنعه جيل آخر لا يحقد ولا يكره ولا يلهث وراء المادة وقشور الحياة، ولا يتأثر بكل ما يسمع ويرى من تحايل وهروب إلى الأمام بسبب تخلينا عن واجباتنا ومسؤولياتنا الجماعية في الاهتمام بالإنسان قبل “البنيان”.
هذه الصائفة شعرت فعلا بالإحراج من تساؤلات أبنائي، وانشغالات أبناء بلدي الذين التقيتهم، بما في ذلك أولئك الساسة والمسؤولين الكبار الذين فقدوا البوصلة، ولم يعد في إمكانهم استيعاب التراجع الحاصل وهذا الذي يحدث في الأذهان والممارسات، ولم يعد في إمكانهم الخوض في النقاشات السياسية والفكرية التي تهم المجتمع ومستقبل الأجيال.
الجميع صار يشعر بأن الجزائر مقبلة على مرحلة صعبة بسبب تراجع أسعار النفط، وغياب الرؤية المستقبلية الواضحة الناتجة عن الغموض السياسي الحاصل، وفشلنا في تحقيق التنمية البشرية والاقتصادية والفكرية اللازمة، وكل أطياف المجتمع ينتابها القلق والخوف من المستقبل.
صحيح أنني أكتب وأتحدث عن التراجع كل مرة أملا في تدارك الأوضاع من طرف ولاة أمورنا، لكنني كنت وسأظل أخفي أسفي وحسرتي عن أطفالي وعن أبنائنا الصغار عما آلت إليه شؤون بلدي، لذلك مازالوا يحبونها ويبكون عليها شوقًا كل مرة يغادرونها إلى ديار الغربة، وأبكي معهم أسفًا وحسرة على الوطن، وخوفًا من أن يكتشفوا بأنني أتحايل عليهم مثلما يتحايلون علينا كل يوم!